الماء الدافئ يُمطرني ، يتخلل الغوائر من جسدي
.. في المغطس أنزل ، وفي الماء أغوص ، حتى أنفي .. أغوص ، البخار يتصاعد ، أبحث عن
ثغرة أتنفس منها .. أصابعي تذوب يأكلها الماء ، أطرافي تطفو ، تنفصل عن جسدي
المتهرئ .. رويدًا ، رويدًا ، يسبح كلّ منها في اتجاه ، تتشبث بجوانب المغطس ..
تشهق .. وتصعد!.
تناولَتْ المناديل تتتبع بقايا مساحيق التجميل
العالقة بوجهها ، تمسح بكفها بخارًا وقطراتِ ماءٍ علتِ المرآة .. المرآة تنتح من
جديد، بدت صورتُها متعرجة ، تشقها مجارٍ رفيعة تسيل وتقطر .. " لم تكن أنت
السبب، أيها العزيــــز!!"
لم يكن أنت حينما حملني الرواق الطويل يتموّج من
تحت قدمي .. يتقاذفني جانباه ، وأنا أستنجد بأهل بيتي كي يدركني أحدهم ، ربما جاء
طبيبٌ أو أُخذتْ مني عينةٌ إلى معملٍ .. وبعدها، اكتشفتك بداخلي، لم أحزن ! ..
ربما أنا حزينة لأنك لست أنت وحدك الآن بداخلي .. لم أتوقع أنني أحمل توأمًا لك؛
بينما تتفتق أنت مني وتكبر حثيثاً على عيني ، كان هو مستكينًا يتأملُني على مهلٍ.
كيف منذ ذلك الحين ، واللون الأبيض يلاحقني في كل شيء .. الناس، الأَسِرّة
والحوائط، حتى الفراغ صار أبيض .. يقهر ألواني وجسدي ، أردتُ استفزازَه بشعرٍ
مستعارٍ أسودَ ، وملابس فضفاضة مبهرجة الألوان رغم استهجان زوجي لمنظرها وتحاشيه
النظر إليّ عند ارتدائي إياها ، فما تكون إجابتي ساعتها سوى " أريد أن أتشبث
بما بقي لي من أنثى!".
ربما كانت أنثى ، الآن هي تزحف في أركان مملكتها
النائية ، تلملم صورًا متوارية خلف قضبان متآكلة ، لتعارك بها زوايا استبدت
بواجهتها الجديدة ، تصرّ أن تحشرها داخل نافذة مغلقة ، منطوية عن العالم .. إلا
أنّ فرعًا منها يشدّها ، فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع ،
تلّون عالمها الأمهق.. تجلس إلى جوارها تتابعها بعينين غائرتين ، تشتم عبيرها
الطفولي ، فتحيلها عروسًا من جديد .
- " زهــرة .. هل عدتِ ؟ "
تعالَي ! .. كم أودّ لو أعيدكِ إلى بيتكِ الأول،
حينما كنّا شيئًا واحدًا خاصًا جدًا !، أتسمّع إلى نبضكِ كي أتيقن أنّ ثمّة حياةٍ بريئة
.. صغيرة تنمو بداخلي، أتوق لتلقفها بين ذراعيّ!، الآن وقد دُنِّس بيتكِ، فما عاد
يُخرج إلا مخلوقات مشوهّة .. أُلتَهم وإيّاها من كائنٍ ضبابي يغورُ في أوصالي ..
ولا أستطيع الدفاع!.
- " أمي ، غيّري لي ملابسي ! "
لمَ ؟! .. مُربيتها دومًا تفعل هذا ، فلمَ اليوم
تطلب منها! .. مضطربة هرعت تغسل يديها بالماء الساخن حتى كادت تنفجر منها الدماء،
رائحة المعقم النفاذة أذهبت رائحة الرأس الطفولي. بأطراف أصابعها تحلّ شريطة حمراء
معقودة حول ذيل حصان بني حريري .. تتعرق يداها.. فتحة القميص ضعيقة تنزلق من بين
أصابعها.
...
- " أمي ، لا أرى .. أختنق !! "
- " سيدتي ، ما الأمر ؟! .. دعيها .. أنا
سأُلبسها ملابسها وأحضّر لها العشاء! "
الشريطة الحمراء في يدها، تدُسُّها في دُرج
ملابسها الداخلية ، تلفّها حول ورقة كجذع شجرة منكمش.
ونحو السرير توجهت ، وتحت غطائه الوثير تغوص ..
كلها تغوص، تنتشر أطرافها الذاوية زاحفة في الدفء .. لتمتد بعد دقائق يدٌ تبحثُ عن
أنثاها في ثنايا الفراش .. يدٌ كثيرًا ما أبعدها جدارُ الصدّ مؤخرًا، والآن عزمتْ
على تمزيقِ الجدار والنزول على ستره الغريب هتكًا وتقطيعًا ، ليرى ما الذي جَدّ !
.. لمَ التمنّع وهي تستطيع ؟! .. حتماً هي تعلم أنها تستطيع !
انتفضت مسرعة تسترُ نفسها أمام نظراته المذهولة
.. تفتحُ الدرج وتخرج جذع الشجرة ، تحلّ منه شريطة " زهرة " الحمراء ،
وتدفع إليه بيدٍ مرتعشة ورقةً تعلوها (شريطة حمراء) ..
- " أنا عندي الإيدز !!".
________
*الشريطة الحمراء: هي الرمز
الدولي للتضامن مع مرضى الإيدز، وهي توحى بالأمل ومحاربة هذا المرض وعدم الاستسلام
له ؛ لذا فتظهر هذه العلامة في أوراق التحاليل وكل التقارير الصادرة من مراكز علاج
مرض الإيدز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق