نزيف متكلّم
للشاعر العراقيّ : علي مولود الطالبي
أولا : النص :
نزيف 1
أنوثتي من صنع كفكَ
يسكنني الخصب ويثمر الحنين
وأنتَ هنا في كل جهاتي
يخضرُ عشبي في البراري القصيّة ..
حين يلمع طيفكِ في باحة العشاق
هيّا أعبري ليلي ........يا امرأة من ماء
نزيف 2
أقفلتُ الذاكرة والأغاني المريرة ثمّ غفوت
هيا أيقظ أنقاضي ...
بكَ يتسعُ الوطن وتعلو حدائق العشاق وأشجار المدن
جئتَني من زمن الفضة والرّيح الأخضر
في دمي يصعدُ الفرح وتجاورُني روحكِ
سوف أركضُ كي أزيحَ سطوة الغياب
وأغني .......
نزيف 3
احتاجُ تفاصيلَ أخرى لم ينهكْ البوح
أحتاج وطناً لا يسقط فيه الخراب
سأتوزع فيكَ من الوريد إلى الوريد وأصعد
وجهكِ والخوف توأمان
تعالي يا قصيدة لم تكتبْ
لا تسأليني
بدونكِ الأرض مقفرة
تسترين عريّ ......
وعلى القلب ينحني كفكِ
إذا نامتْ الرّيح في شرفاتكِ أشرقت نسائمي
اقتربي ...
هو جسدي غيمة وزمن آخر يحرس غفوتكِ
نزيف 4
عطّر رمل أيامي ...
في دمي كآبة
حاصرني وأكمِل رسم لوحة لم تكتمل
أدفع غربان العابرين وسيّج صباحاتي
بعشقي .....
كما أوجدتني السّماء أجيء إليكِ
بكفي المعشّب بالحنين ..
وبي .. ووردة ناعمة
أرصد طيفكِ ..... وأنتشر في خلاياكِ
نزيف 5
سيدي بي تعب
كنْ ذلك الفجر الذي يلمّع الحلم والذاكرة
كنْ هفواتي المثيرة
تنامين في داخلي
أفتحُ مائي وحلمي الأبيض
أقتنصُ الضوء من غيمة تمر بين خطواتكِ
يسرقني المعنى والوقت ورائحة الشعر
حين أراقصكِ
أوقفتُ قاعدة العشق العادي
حتّى تمتلئ القصيدة بسحر عينيكِ
أهطلِ ....أهطلِ
فأنا القادم من مدى عينيكِ
أستضيء بالغرام
وأصعد إلى السّماء الراسخة
نزيف 6
قمْ وافتح القلب
قرب الماء ........ واهتف للجسد المغطى
بقميص العناء قبل أن يعتريه الشحوب
القاهرة : 2011
شعر : علي مولود الطالبي
ثانيا : قراءتي النقدية :
نزيف متكلم
مقدمة :
عندما يَخرُج النزيف دماً أحمر يئن ربما يريح صاحبه أو تعرف حاجته إلى نقل الدماء ، أما النزيف الداخلي فإنه يأخذ من صاحبه مأخذا عظيما ، كيف لا وأنينه مكبوت لا يستطيع عنه إخبارا ، فلا يزال يأكل صاحبه حتى يهلكه كليّةً ! ، وفي هذه القصيدة ( نزيف متكلم ) ربما النزيف بها داخلي إلا أنه يتكلم فيما يشبه التخاطر مع نزيف آخر حميمي فيما يشبه حوارية رائعة .. كان بطلها في الطرفين هو .. النزيف !
العنوان : ( نزيف متكلم )
يلاحظ أن العنوان وهو العتبة الأولى للنص لأنه أول ما تقع عين القارئ عليه ، قد جاء العنوان من مقطعين لكلمتين نكرتين من تركيبة ( اسم ونعت ) مما يوحي باستمرارية هذا النزف وهذا التكلم ، وهو ما يهيء المتلقي لتقبل الفكرة الرئيسة عن النص وهي ( النزيف ) ومدلولاته من وجع وألم ، ( متكلم ) حيث الحوارية التي يدور النص داخلها فيما يكون أشبه بالبوح بين طرفيها .
النص يتألّف من حوارية في كل مقطع عدا الأخير ، قد يختلف من متلقٍ لآخر كنه هذين المتحاورين لا سيما وإنهما رجل وامرأة .. ولكن ، فيما نرى فإنه حوار ابن مع أمه ( الوطن ) ، ذلك الوطن والذي كثيرا ما مُثل في الشعر على أنه امراة . فتخاطب الأم ( الوطن ) ابنها وحبيبها ذلك الذي تعلّق عليه الآمال ليرفع عنها الوجع على إثر ذلك النزف المستمر . نزيفها هنا يتكلم يخاطب نزيفه إلا أنهما مختلفان ؛ نزيفها من ألم مُلمٍ بها مما اعتراها من ضيم وسقم ، ونزيفه من غربة تفرّق بينها وبينه .
لذا فختم المقطع الأخير بالكلام على لسانها هي وكأنها تعطيه وصيتها الأخيرة تطالبه بالنهوض والبذل كي يتداركها قبل أن تنزف دماءها الأخير ة وتموت .
يلاحظ في هذا النص القائم على الحوارية بين الوطن الأم وابنها المغترب ، أنّ الصور في أغلبها تعتمد على الطبيعة حيث الماء والخضرة والعشب والخصب ، وهذا ملائم للغاية للوطن من حيث وصف محاسنه ، وكذلك ينسجم مع بيئة الشاعر ، خاصة إن عرفنا أن بلد الشاعر هي ( العراق ) .....
نزيف 1
أنوثتي من صنع كفكَ
يسكنني الخصب ويثمر الحنين
وأنتَ هنا في كل جهاتي
هنا يبدأ الحوار على لسان هذه ( الأم /الأنثى /الوطن ) وهذا مناسب لهذه الفكرة حيث مفارقة الولد داره ، فتكون كمن يعطيه الوصايا قبل الرحيل ..
أنوثتي من صنع كفكَ
يسكنني الخصب ويثمر الحنين
وأنتَ هنا في كل جهاتي
هنا يبدأ الحوار على لسان هذه ( الأم /الأنثى /الوطن ) وهذا مناسب لهذه الفكرة حيث مفارقة الولد داره ، فتكون كمن يعطيه الوصايا قبل الرحيل ..
" أنوثتي من صنع كفك " : إنّ الأنوثة هي مكمن جمال المرأة وجاذبيتها ، ومن ملامح هذه الأنوثة خصوبتها وقدرتها على الإنجاب بكثرة .. وقد جاء الشاعر بكلمات مرتبطة بالأنوثة :
( السكن --- فالمرأة هي سكن الرجل )
( الخصب --- حيث القدرة على الإنجاب )
( يثمر --- الإنجاب بكثرة أولاد حني الهيئة كالثمار )
( كل جهاتي --- احتوائها الرجل )
إذن فعنصر نمائها وخصبها متوقف على هذا الابن وهذا فيه انزياح لأن الخصب هو من يأتي بالابن وليس العكس كما في الأسطر هنا ، لكن استخدام الكاتب لها كان متميزا وجديدا فيدل على أنّ هذه الأم قد فُقد منها الكثير من خصبها وجمالها وهاهي بانتظار ابنها ليعيده إليها ، وهذه صورة لا تتأتى - حسب رؤيتي - إلا للوطن ..
وكانت الصور المستخدمة رائعة بانزياحاتها ، فهذا الخصب ليس فقط موجود وإنما هو ساكن بداخلها كما توجد السكينة في أحضانها ، فكانت الصورة المجازية في ربط الخصب بالإنسان الذي يسكن فيها أكثر دقة ودلالة على انتمائه لمكان سكنه ( المرأة / الوطن ) .
[ ويثمر الحنين ] .. ربما الحنين يؤلم ويوجع صاحبه ، إلا أنّ الحنين الوحيد الذي يثمر وينتج هو الحنين إلى الديار لما يبعث فيمن يغترب عن موطنه روح الهمّة والعمل والنشاط للعودة بأشهى الثمار ( النجاحات ) لا يعود بخفي حنين ! ..
[ وأنت في كل جهاتي ] .. إنه احتواء الوطن الذي يشعر به الإنسان والذي يشعر به الوطن نفسه ، فالابن ليس مجرد قطعة من أمه وإنما هو خلاصة كل خلية منها ، وهكذا الأوطان عندما يفارقها أبناؤها تظل تفكر بهم ( متى يعودون ؟؟! ) وياللحسرة إن لم يعودوا ! .. إنه بمثابة الروح التي قد فارقت جسدها المتعب وتنتظر عوده المرتقب .
يخضرُ عشبي في البراري القصيّة ..
حين يلمع طيفكِ في باحة العشاق
هيّا أعبري ليلي ........يا امرأة من ماء
يخضرُ عشبي في البراري القصيّة ..
حين يلمع طيفكِ في باحة العشاق
هيّا أعبري ليلي ........يا امرأة من ماء
يردّ الولد بنفس الأسلوب والنَفَس .. فيقول أنه قد ترك عشبه ( كل ما يملك ) مخضرّا لديها ، فلا حياة إلا في ربوعها الخضراء ..
( طيفك ) تستخدم كثيرا مع الحبيبة وتخيل هيئتها ، وهنا جمال الصورة فيستخدم الشاعر هذه اللفظة ليصور موطنه كعروس تنساب مختالة أمامه في باحة العشاق .. وهذه صورة جميلة للبلاد ، ( هيا اعبري ليلي ) ، والليل أكثر توافقا مع الحلم والطيف والخيال وتزاحم الشجون والحنين للأهل والأحباب ، فمجرد ظهورها بالليل للشاعر تكون كمن يبدد الظلام ويبعث في ليله النور والانشراح ..
( يا امرأة من ماء ) صورة جديدة ، تحسب للشاعر، الماء هو الحياة هو الانسان نفسه هو أرضه ، والماء ليس له لون ولا طعم ولا رائحة إلا أنه إرواء للظمأ، و بدونه يموت الإنسان ، ويجدب ويصير شاحبا قاحلا ، وهذا يتماهى مع الصورة الأولى ( يخضر عشبي ) في تلك الربوع النائية .. فهذه الصورة مناسبة للبلاد خاصة كبلد مثل العراق الذي يتمتع بفضل الله يتمتع بالماء الغزير - دجلة والفرات ..
نزيف 2
أقفلتُ الذاكرة والأغاني المريرة ثمّ غفوت
هيا أيقظ أنقاضي ...
بكَ يتسعُ الوطن وتعلو حدائق العشاق وأشجار المدن
جئتَني من زمن الفضة والرّيح الأخضر
هيا أيقظ أنقاضي ...
بكَ يتسعُ الوطن وتعلو حدائق العشاق وأشجار المدن
جئتَني من زمن الفضة والرّيح الأخضر
عندما تكون الذاكرة صندوقاً يبعث الألم بذكرياته المؤلمة .. كم يكون النسيان حينها الدواء !، ولكن لا سبيل إلى ذلك إن كانت ذاكرة الوطن لا تعرف النسيان ، فكل شيء مدوّن وستظل هذه الآلام تتقافز إلى الذاكرة كلّما فُتح الجرح ! ..
فالحل في التغافل والغفوة إلا أنها مرهونة بذلك الذي عليه الآمال منصوبة ، فوحده هو الذي يعيد إلى أنقاضها الحياة ، ووحده الذي يستطيع أن يجعل هذه الذاكرة التعيسة الضيقة تتسع وتتسع بل وتثمر وتورق بها الآمال العظيمة والتي تكون هي الدواء ، فهذا الإنسان اللجيني أبيض القلب أبيض التاريخ أصفاه قد جاءها بهذا الخصب وريح الأمل التي تبعث بها الحياة.
وقد جاء الشاعر بالمقابلة بين الصورتين [ الاستعارة التصريحية ] في أول وآخر هذا المقطع القصير ( أقفلت الذاكرة – يتسع الوطن ) في عقد المقابلة بين الحال الضيق ، والأمل الواسع المتوقف على هذا الولد..
كما أن الصور الجميلة لوصف هذا الفتى قد كانت موفقة إلى حد كبير ، فهذا الفتى قد جاء من زمن البراءة والصفاء والجمال إنه أصيل المعدن .. وهناك مقابلة مخفية غائبة لأن كلمة ( فضة ) قد تحمل إلى الذهن فكرة ( الذهب الأسود ) ذلك النفط الذي بسببه كان التكالب والطمع والجشع الذي آلم الوطن ومزّقه .
في دمي يصعدُ الفرح وتجاورُني روحكِ
سوف أركضُ كي أزيحَ سطوة الغياب
وأغني .......
وهنا الإجابة من هذا الابن البارّ .. وهذه هي وعوده لها ، رغم ما يتكبد أمه ( الوطن ) من حزن دفين .. إلا أنها لا تزال بطيفها الذي ذكره في المقطع الأول وروحها الحزينة التي تناجيه هنا في المقطع الثاني تبعث فيه الأمل والبشر لذا .. فيعدها لا فقط بالنهوض والتحرك .. وإنما ( بالركض ) ، ليزيح عنها هذا الألم الذي اضطرها لإغلاق ذاكرتها لتعيش في غياب وغفوة تنقذها مؤقتا مما تترع فيه من شقاء
المقطع جميل يتناغم مع المقطع الأول بل ويكمل صورتي الخصب وطيف الوطن الباعث لحياة الولد المغترب
نزيف 3
احتاجُ تفاصيلَ أخرى لم ينهكْ البوح
أحتاج وطناً لا يسقط فيه الخراب
سأتوزع فيكَ من الوريد إلى الوريد وأصعد
ينتقل الحوار إلى شكل البوح في هذا المقطع ، فتخبره أمه عن آمالها .
" أحتاج وطناً .. " : وهذ أشدّ شيء ، أنّ الوطن ذاته يحتاج إلى وطن ، أنّ الأم ذاتها تحتاج إلى حضن دافئ يحتويها وتطمئن فيه ، ولعلّ سائلا يسأل لماذا تخبر ولدها بهذا الكلام ؟!" .. إنّ فاقد الشيء لا يعطيه ولربما عانى الولد ذاته مع أمّه تلك اللحظات الصعاب التي تمر بها فلربما يخيل إليه أنها قاسية أحياناً ولا تحتويه كفايةً ، فكان بوحها إليه هنا كاعتذار عمّا بدر منها قديماً ورجاءً منه في أن يعيد إليها ذلك الدفء الذي فقدته ، ذلك الدفء الذي تنبت في أجوائه الجنان وتورق الخيرات فلا يجد ( الخراب ) إليه سبيلا ، دفء يجعلها حارة كالدماء النابضة تسري في عروقه وأوردته ، وتصعد إلى قلبه تغذيه فينبض بحبها ودماغه فيتحرك فكره بها .
(أحتاج وطناً لا يسقط فيه الخراب
سأتوزع فيكَ من الوريد إلى الوريد وأصعد) ، ما أروعها من صورة عندما يصير الولد هو وطن أمه ، عندما يكون هو من يحتويها ، وهكذا حقيقة الأمور ، فالابن عندما يكبر يكون هو السند لوالديه، المتكأ لهما ليكملا بقية العمر ، فــ( تفاصيله ) بــ ( أوردته ) تلك التي يسير فيهاالدماء هي وسيلتها الوحيدة لتجنب ذلك النزف بعد أن تقطعت أوردتها وقاربت لفظ آخر الأنفاس ! .
وجهكِ والخوف توأمان
تعالي يا قصيدة لم تكتبْ
لا تسأليني
بدونكِ الأرض مقفرة
تسترين عريّ ......
وعلى القلب ينحني كفكِ
إذا نامتْ الرّيح في شرفاتكِ أشرقت نسائمي
اقتربي ...
هو جسدي غيمة وزمن آخر يحرس غفوتكِ
وأمام مطالبتها إياه بهذا الوطن الذي تفتقده هي ، وأمام هذا الخوف المريع طويل الأمد والذي صار ملازماً لها وكأنه وهي خلية واحدة وانشطرت جزئين فصارا توأمان !.
وكان استخدام ( الوجه ) على وجه التحديد لتوضيح شدة وملازمة الخوف في هذا التشبيه البليغ ، لأن الوجه هو أكثر ما تظهر عليه الملامح وأوضحها .
( تعالي ياقصيدة لم تكتب ... ) وهنا تكامل الجسد الرائع ، فهي قد كانت روحاً متعبة تفتقد الجسد الوطن الذي تفترش فيه ليحتويها بدفئه ، أما هو فكالأرض المقفرة العارية من العشب والأخضر ، فكانت هذه الاستعارة المكنية بانزياحها الرائع الفريد بين الروح والجسد وما يمثله من اجتماع الوطن والولد معاً .
( وعلى القلب ينحني كفّكِ ) فهي من توقظ بروحها جسده المتخشّب ، تستر عريه بما تمنحه إياه من هوية ومكان على البسيطة ، فتجعله جسداً به روح لا تمثال أجوف.
لذا يطمئنها في نهاية هذا المقطع ( هو جسدي غيمة وزمن آخر يحرس غفوتكِ ) ما أروعها من صورة تمثل التكامل والفداء ، فهو ذلك الحارس الذي يحرس تلك الروح التائهة بل ويظللها كالغيمة في هذا التشبيه البليغ ويلفّها ، بل وإنه المجدد لزمنها عمرها المطيل إياه ، إنه المدد لأمد حياتها حين تنتابها الغفوات حتى وإن طالت .. وهنا يتوافق المقطع الثالث مع الثاني في طمأنتها لتجاوز محنتها الصعبة !
نزيف 4
عطّر رمل أيامي ...
في دمي كآبة
حاصرني وأكمِل رسم لوحة لم تكتمل
أدفع غربان العابرين وسيّج صباحاتي
تكمل الأم هنا تفاصيل مرادها من ولدها ، تلك الأم الحزينة البائسة .
( رمل أيامي ) فما أشد أن تنقلب أيامها إلى رمال بلا رائحة ، بلون ترابي باهت ، لا معنى له سوى العدم ! .. أيام متناثرة متشظية حد الذرات ، فلا عجب ان يطير عقلها خلف كل ذرة لتجمعها .
(في دمي كآبة) دمها صار داكناً من الحزن والكآبة .
فيأتي السطران التاليان يكملان اللوحة السابقة ، " حاصرني وأكمِل رسم لوحة لم تكتمل " تلك الأيام المنثورة كالرمال المفرقة هنا وهناك .. تطالبه هنا أن يحاصرها ويلملمها معها ليكمل لوحتها وصورتها التي تلاشت عبر الأيام ، وهذه الدماء الداكنة بالكآبة تدعوه هنا ليدفع عنها الغربان السود التي سوّدت أيامها بأجنحتها السوداء فحجبت الشمس والهواء الصحيّ ، فتسممت دماؤها وتعكّر صفوها.
أدفع غربان العابرين وسيّج صباحاتي ، وما هذه الغربان إلا عابرة تمر ، وتبقى هي شامخة عزيزة ، إلا أنّ الغربان لا تمرّ وحدها ، لابد لها من زاجر لينقشع ليلها إثر أجنحتها السوداء ويشرق صباحها من جديد .. قد تكون الغربان هي الأعداء المتربصة أو الاحتلال الغاشم ، ولكن لابد لهذا الوطن الجميل من حماية .. لذا فطالبته أن ( يسيّج ) حولها بسياج يحميها ثانية من مهاجمة الغربان وتربصهم بها .
بعشقي .....
كما أوجدتني السّماء أجيء إليكِ
بكفي المعشّب بالحنين ..
وبي .. ووردة ناعمة
أرصد طيفكِ ..... وأنتشر في خلاياكِ
أنّه ذلك العشق الجميل .. الطاهر طهر هذه البلاد العريقة .. فما أجمل وأطهر من حب الوطن ؟! .. إنه ذلك الحبّ الفطري الذي يولد مع ولادة الإنسان :
" بعشقي .....
كما أوجدتني السّماء أجيء إليكِ :" إنه يحمل لها الوعود بالمجيء لتلبية طلبها ، للملمة شتاتها ، لتبديل دمائها الداكنة الملوّثة وطرد الأشرار وتسييج مستقبلها ، إنه يعدها بكفّه المعشّب الذي بحنينه المثمر يزرع الخضار في أيامها ويمنع التصحّر من أكلها مجددا .
" وبي " وهنا قمة الروعة في هذه الكلمة البسيطة ، إنه يعدها بدمائه الحمراء الحارة ليبدل دمها المسموم ، بعملية أشبه بنقل الدم !
وبهذه الــ ( الوردة الناعمة ) لتطرد تلك الغربان السود ولتزرع الأمل والجمال وذلك العطر الذي كانت تناشده به ليعطر أيامها وصباحاتها . ومرة أخرى " أرصد طيفكِ ..... وأنتشر في خلاياكِ " إنه طيفها الذي لا يفتر عن ملازمته والتفكير فيها الذي يملأ عليه كيانه .
نزيف 5
سيدي بي تعب
كنْ ذلك الفجر الذي يلمّع الحلم والذاكرة
كنْ هفواتي المثيرة
هنا ذلك المقطع المعجون فيه الوجع بالأمل ، ( سيدي – بي تعب ) كم أن هذا التعب مستحوذ عليها متشعب فيها كخيوط العنكبوت التي تشابكت ونسجت حولها كالفريسة ، (كنْ ذلك الفجر الذي يلمّع الحلم والذاكرة
تريده أن يكون هذا الفجر بصباحاته وأنواره التي تزيح غبار السنين عن هذا الصندوق - في المقطع الثاني - والذي قد أغلق على الذاكرة المتعبة ، تريده أن ينفض الغبار عن هذا الصندوق ويلمّعه ليخرج حلم المستقبل المضيء وما كان في ذاكرة الماضي من أمجاد وأعمال عريقة ( كنْ هفواتي المثيرة ) فما أجمل أن ترى الأم ولدها يحاول ويتعب من أجلها وإن أخطأ تسعد به لأنه يتعلّم ويخبُر الحياة ويكبر ، ويكبّرها معه .
تنامين في داخلي
أفتحُ مائي وحلمي الأبيض
أقتنصُ الضوء من غيمة تمر بين خطواتكِ
يسرقني المعنى والوقت ورائحة الشعر
حين أراقصكِ
أوقفتُ قاعدة العشق العادي
حتّى تمتلئ القصيدة بسحر عينيكِ
أهطلِ ....أهطلِ
فأنا القادم من مدى عينيكِ
أستضيء بالغرام
وأصعد إلى السّماء الراسخة
ويرجع في آخر كلمات لهذ الولد ( تنامين في داخلي
أفتحُ مائي وحلمي الأبيض
يخاطب هذا الطيف الجميل ، وكخاطب العاشق لمعشوقته ، يخاطب ذلك الطيف الروحاني الجميل ، يمنحها جسده لتسكنه ، فيسير بها كمركب شراعي صغير يمضي بها في البحار حتى يصل إلى أرض الحلم الأبيض ، إنه كالحلم البرئ الطفولي المتمثل في الأمان والاستقرار والسلام ، أرض لم يلوّثها شيء من قبل.
(أقتنصُ الضوء من غيمة تمر بين خطواتكِ ) بل إنه يقتنص الضوء من نبعه الأصيل من برق السماء ، كأنما يصطاد صيدا ثمينا يقرّبه لها قربانا كلمّا مر طيفها أمام ناظريه في السماء مذكرا إياه بليلها البهيم ، فتبلغه السعادة أوجها حينما يبذل من أجل محبوبته ( وطنه ) ، فالحب بوصلته ومنارته التي تقوده في خوض الصعاب من أجلها
(فأنا القادم من مدى عينيكِ
أستضيء بالغرام
وأصعد إلى السّماء الراسخة ) فهو القادم من هذه البلاد الحبيبة حينما كانت تودّعه بعينيها في نهاية الطريق ولم يبق له سوى حبّه إياها مرشدا ومعينا على المرور بالصعاب وطلبا للعلا والسمو بقدم راسخة .
نزيف 6
قمْ وافتح القلب
قرب الماء ........ واهتف للجسد المغطى
بقميص العناء قبل أن يعتريه الشحوب
خاتمة :
النص الشعري متميز في أطروحته رغم انفتاحه على التأويلات العديدة ، لذا فأرى أنه في حاجة إلى دراسات وقراءات متنوعة ، وأكثر ما يميّز القصيدة هو ذلك الشعر الحواري الجديد الذي يبين التفاعل النفسي بين الطرفين ( الأم - الولد ) .. وتوافق الصور في كلّ منهما ..
تحياتي لقلمكم الرصين أ / علي مولود الطالبي
دينا نبيل --- مصر
13/3/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق