الأحد، 11 ديسمبر 2011

قراءة في ( الرسالة الثالثة ) للشاعر منتظر السوّادي






أولا : نص الرسالة الأدبية :



الرسالة الثالثة
 
امتَطَيتُ صَهوةَ الصَبرِ بعدَ أنْ صَمتَ البَدرُ , فتأهبتُ وَجمعْتُ من فاكِهةِ السَّمرِ , وقُوتَ السَّهرِ مَا يُطربُ الخلفاءَ , و يُؤنسُ الغرباءَ , ويُغري الأتقياءَ ؛َ وَدَّعْتُ عَتبةَ السَّأمِ , وَمَزَّقْتُ لباسَ القنُوطِ ؛ وعانقْتُ الآمالَ عناقَ الرَاحِلِينَ .

جاءَ الليلُ يجرُّ عرباتِه البائسةَ مُتمَلْمِلاً , قَد أَثقلَهُ إِكليلُ زَفافِ الأَرضِ , وقد أَخفى زِينَتَهُ , أزهَارُ البَساتينِ بانتظارِ ألحانِ مَوكِبِ العَرسِ .
وحيدٌ أنا في المحطةِ , هَمَسَ الظَّلامُ : الرحلةُ حَانَ خوضُها , وأُذْكيتْ شَرارتُها , فشمرتُ عن رأسٍ لم يَعْرفِ المِشطَ مُذْ أنْ هَرَبَ بَصيصُ الغَيثِ ,مُذْ أنْ جَفَّ نهرُ الفَرحِ, وَمُذ أنْ تَسَلقَ البؤسُ إِلى خيوطِ السَّرَابِ لينسُجَ ثَوبَاً لأَحلامِي , رَكَبَ كُلٌّ وحبيبتَه , الوُرودُ بِأيمانِهم , والمَرحُ والسُّرورُ يُداعِبُ أعطافَ جَدَائِلِهم , والعطرُ يغمرُ أفواهَهم وَكَلِماتِهم.

الغَزَلُ رَقَائِقُ غَمَامٍ يَنْسَابُ من قُلُوبِهم , همسٌ يتَبَادلونَه بِلُطْفٍ , فــــــأرقَ القَلبَ شوقٌ , وَأَضرَمَ في النَّفسِ حَشرجَةً , سَرَّحَتُ خيالي بعيداً , أرقِبُ سَماءَ الذّكرياتِ ونسيمَها , وَأيامَ كنَّا نلهو في الأَنهَارِ خَلفَ الأَحلامِ الطُّفُوليَّة , والأَسماكِ الورديةِ , وإذ بِحُورِيتينِ في مخيلتي لا تَعْرِفَانِ الأفولَ , ألهمتْني الأُولى حُبَّاً مُستعراً , فَرسمْتُ دَربي ألحَاناً وأنرتُه إنشَادَاً , والثانيةُ صَمتتْ دَلالاً وكبرياءً سِوى بَسمةِ أملٍ ارتسمتْ على شَفَتيها , فتشبثَتْ بِجدائلِها رُوحِي الغَرقى ؛ عِندَها صَعدتُ مغنياً - وأنا عَالِقٌ بِهَاتينِ النَّجمَتينِ - بعدما صَاحَ نَجمٌ : الليلُ سيقلُكم حيثُ أَحلامُكم .

قعدتُ قُربَ مِطفأةِ الأسى , ظَللتُ وَحيداً .. حتَّى قَارَبْنَا بَوابَةَ الفَجرِ , الرُّكابُ قد فارقَهم السّكوتُ , فضحكاتٌ تعلو ضحكاتٍ , والمرحُ يَلثمه المَركبُ كَالرَّاحِ , والبسماتُ تضيء الأرواحَ , وأنا آهاتٌ تردفُ حَسراتٍ , وَظُلُمَاتٌ تذرفُ لوعات , وأفكارٌ تأخذُ أكيالَاً منَ الأوقَاتِ , فَكأَنَّي طفلٌ أَيتَمَهُ الإصبَاحُ , وَرَاحَ يَبْحَثُ عَن أَشْلَاءِ الأفرَاحِ . أجلسْتُ جُنبي " ريَّا " لكنَّها تنظرُ من نافذةِ الليلِ إلى فَجرٍ لم يَزلْ فِي التَرائبِ , شَعْرُها يُغطي كلَّ ما تقعُ عليهِ عيناي , أحاورُها وأُناغيها لكنَّ الصمتَ رداؤها , عزفتُ لها قصيدةَ المَجنونِ وَلَمْ تَصخْ ؛ يَا " ريَّا " .. الصُبُّ متَّى موعدُه ؟ فَتأججَ صدُودُها , واحمرتْ خُدودُها , تَوقفَ اللَّيلُ فِي محطةٍ الإنتظارِ بينَ الغيومِ الزاهرةِ بأوتارِ النجومِ الغَانياتِ , وَنَشيدِ الزَّهرِ وَأَلوَانِ الفَّرَاشَاتِ , العَذارى والفتيةِ يتبادلونَ بسماتٍ ممتلِئةً بِالحُبِّ , وَكؤوسَاً منِ عذبِ الكلامِ , - وأنا في غَيهبٍ معتقٍ في الجُبِّ – و " ريَّا " كَأنَّ الصَّومَ قِلادَتُها , وَالصُّدودَ بُرجُهَا , وَلا تَزدادُ في عينيَّ إلا جَمَالاً وَفِي قَلْبِي إلا حُبَّاً , وَعشقُها يَملأُ أَركانَ الكَونِ , أُغَازِلُها فَيُورِدُ فِي شَفَتَيهَا الحَياءُ , عِندَ قَدميها يُرَفرِفُ فُؤادِي الأَسِيرُ مَذبُوحاً , فَتَضحَكُ نَاظرةً إلى ذَبيحِ عينيها .

آهٍ مَا أَقساكِ , أوصدت الأبواب على آمالي , وبصمتِكِ حطمتِ براءةََ انتظاري , فَتلاشتْ عِدَّتي , هَباءٌ سَفري , صَبرٌ جميلٌ , وَاللهُ المستعانُ على سِحْرِ العُيون .


منتظر السوادي 2/2 / 2011 
 
 
ثانيا القراءة النقدية :
الرسالة الثالثة

الرسالة الأدبية هي مخاطبة الغائب بلسان القلم ..وهي من اعذب الفنون الأدبية لما تحمله من معنى جميل .. الرسالة . فهي تربط بين اشخاص تبعد بهم الأقطار ويجمعهم الحب والمودة ..لذا تظهر نبرة الاشتياق عالية بها

والرسالة التي بين أيدينا الان على ما تحمله من المعنى الطبيعي للرسالة كما أسلفت فقد كان لاسلوب الكاتب فيها ما يضيف معان أخرى للرسالة تحسب للكاتب وهذا سيأتي في التحليل التالي ..

أولا العنوان

الرسالة الثالثة .. هذا معناه أنه كان هناك رسالة اولى وثانية وربما رابعة وخامسة ..لكن ما امامنا الان كقراء هو هذه الرسالة ولا ندري عن الأخريات شيئا .. لذا فكنت أتمنى من الكاتب لو أنه قد انتقى عنوانا آخر بدلا من هذا .. عنوانا يكون له اتصال بالنص .. لكننا هنا كقراء لا ندري ما العلاقة بين " الرسالة الثالثة " والنص بين ايدينا

المرسل والمرسل إليه :

كما يتضح لي كقارئة قبل أي شئ أن المرسل هو الراوي لهذة الرسالة .. اما المرسل إليه فكما يظهر في مطلع الرسالة " فتأهبتُ وَجمعْتُ من فاكِهةِ السَّمرِ , وقُوتَ السَّهرِ مَا يُطربُ الخلفاءَ , و يُؤنسُ الغرباءَ , ويُغري الأتقياءَ " فهنا يظهر المرسل إليه والمغزى من إرسال الرسالة

المكان والزمان :

المكان هو المحطة - الزمان هو الليل - الحالة النفسية للمرسل كما ذكرها في اكثر من موضع بالنص " وحيد على سفر "

المضمون :

المضمون ينسجم كثيرا مع الجو النفسي العام للرسالة وهوالليل والوحدة وترقب السفر لأنه بالمحطة ويظهر هذا في عدة كلمات مثل نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالليلُ يجرُّ عرباتِه البائسةَ مُتمَلْمِلاً )

ايضا جو الوحدة في أكثر من موضع من خلال المراوحة بين حال الآخرين وحاله (رَكَبَ كُلٌّ وحبيبتَه , الوُرودُ بِأيمانِهم , والمَرحُ والسُّرورُ يُداعِبُ أعطافَ جَدَائِلِهم) بينما هو (الغَزَلُ رَقَائِقُ غَمَامٍ يَنْسَابُ من قُلُوبِهم , همسٌ يتَبَادلونَه بِلُطْفٍ , فــــــأرقَ القَلبَ شوقٌ , وَأَضرَمَ في النَّفسِ حَشرجَةً )

أيضا : (الرُّكابُ قد فارقَهم السّكوتُ , فضحكاتٌ تعلو ضحكاتٍ , والمرحُ يَلثمه المَركبُ كَالرَّاحِ , والبسماتُ تضيء الأرواحَ) بينما هو(وأنا آهاتٌ تردفُ حَسراتٍ , وَظُلُمَاتٌ تذرفُ لوعات , وأفكارٌ تأخذُ أكيالَاً منَ الأوقَاتِ , فَكأَنَّي طفلٌ أَيتَمَهُ الإصبَاحُ , وَرَاحَ يَبْحَثُ عَن أَشْلَاءِ الأفرَاحِ

لذا فسلم امره بالنهاية انه لا يملك سوى الذكريات الماضية وخيالات واطياف (سَرَّحَتُ خيالي بعيداً , أرقِبُ سَماءَ الذّكرياتِ ونسيمَها ) وهنا تأخذ الرسالة منعطفا جديدا وهو أنها تنتقل إلى ما يشبه القصّ وتذكره لفتاة اسمها ( ريّا ) أحضرها من الماضي وأجلسها إلى جواره وأخذ يحادثها .. وهذا يعكس نبرة الوحدة والألم التي يعاني منها الراوي ..

وتنتهي الرسالة بكلامه إليها وكانها بالفعل امامه يعاتبها فيقول :"آهٍ مَا أَقساكِ , أوصدت الأبواب على آمالي , وبصمتِكِ حطمتِ براءةََ انتظاري , فَتلاشتْ عِدَّتي , هَباءٌ سَفري , صَبرٌ جميلٌ , وَاللهُ المستعانُ على سِحْرِ العُيون ."

اللغة :

وهي أهم ما يميز الرسالة أولا اللغة ملائمة جدا للجو العام .. الليل – الوحدة – السفر كما أسلفت
هناك عدم تكلف على ما ارى .. فالكلمات متتابعة والمقاطع قصيرة تسلم بعضها .. والجمل ليست طويلة ولا يوجد كلمات مكررة الألفاظ سهلة جزلة جدا بليغة في مواضع كثيرة (أُغَازِلُها فَيُورِدُ فِي شَفَتَيهَا الحَياءُ , عِندَ قَدميها يُرَفرِفُ فُؤادِي الأَسِيرُ مَذبُوحاً , فَتَضحَكُ نَاظرةً إلى ذَبيحِ عينيها)

هناك استخدام للسجع في مواطن عدة .. سجع غير متكلف (يَلثمه المَركبُ كَالرَّاحِ , والبسماتُ تضيء الأرواحَ , وأنا آهاتٌ تردفُ حَسراتٍ , وَظُلُمَاتٌ تذرفُ لوعات , وأفكارٌ تأخذُ أكيالَاً منَ الأوقَاتِ , فَكأَنَّي طفلٌ أَيتَمَهُ الإصبَاحُ , وَرَاحَ يَبْحَثُ عَن أَشْلَاءِ الأفرَاحِ"

هناك ايضا استخدام للمحسنات البدبعية كالجناس الناقص .. ( السهر – السمر )
مطلع الرسالة اشبه بالمقدمة جزل جدا بليغ

الرسالة مليئة بالصور البليغة خاصة الاستعارة والتشبيهات البليغة (وَدَّعْتُ عَتبةَ السَّأمِ , وَمَزَّقْتُ لباسَ القنُوطِ ؛ وعانقْتُ الآمالَ عناقَ الرَاحِلِينَ) والتصوير الراقي

كان بديعا ان أرى تشكيلا للكلمات .. وهذا جعلني كقارئة أنتبه إلى العلامات والاعراب .. وكان الكاتب موفقا فيها جدا ..لكنني كنت أتمنى فقط لو استطاع الكاتب الاهتمام بالتنسيق قليلا

لكن هذه الرسالة رقيقة جدا سلسة وبليغة وهنا على ما اعتقده يحسب للكاتب .. هذه اول رسالة أقرأها للكاتب وأعجبتني فعلا

لك كل الشكر أ / منتظر
دام قلمك مبدعا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق