الجمعة، 9 ديسمبر 2011

قراءتي على قصة ( صراخ الأسمنت ) لكاتبتها أ / حنان المنذري









أولا : النص 

( صراخ الأسمنت ) 
حنان المنذري


صراخ الأسمنت
من أجل موعد غائم سيحين بعد برهة, جلست أمام مرآة التسريحة لترسم على صفحة وجهها «مكياجًا» متقنًا سيحيلها إلى امرأة مختلفة.. امرأة أجمل وأكثر أنوثة.. وأهم من ذلك, امرأة لا تشبهها! ... 

قبلًا, كانت تكتفي بوضع بعض الرتوش البسيطة من علبة المساحيق لتبرز بها معالم جمالها المتواضع, غير أنه في هذه المرة, كان ثمة ما يدعو لأن تُزلف تفاصيلها بألوان صارخة, تطمس وشاية عينيها العسليتين بعدستين لآصقتين عميقتي الزرقة, وشفتيها البندقيتين بأحمر شفاه لامع.
الساعة التي علت التسريحة المستندة إلى الحائط تنذرها بأن ما تبقى من وقت لديها لا يكفي لتنجز لعبة الألوان بالدقة التي تريد, وهي على تلك الحالة من البعثرة والتشظي, تزداد اضطرابًا حين تخونها انقباضات قلبها فتعجزها عن الاختيار المتقن للأدوات الموضوعة بلا ترتيب على الطاولة أمامها!.
 
في قرارة عمقها المسكوبِ بالحنين, تمنّت لو أن كان بمقدورها أن تستعير وجه جارتها البعيدة, وجه زميلة يمّمت شطر الغياب, وجه امرأة قابلتها في الشارع صدفة!... أي وجهٍ جميل لا يعنيها ولا يشبه وجهها, وجه مؤقت تستطيع أن تمحوه بورقة محارم في حال عودتها خائبة إلى شُقتها, وقبل مواجهتها لمرآتها الصقيلة في حجرتها, وقبل أن تلقي بها الحظوظ العاثرة في صدفة رجل التقته فعافها أو عافته في ذلك المكتب!
 
بعد أن انتهت, نظرت بتأمل إلى تفاصيلها في المرآة, ها قد أضحى لها وجه مختلفاً قدر الإمكان, سعيد قدر الإمكان, غامض قدر الإمكان... ابتسمت بلا معنى, وزعت ناظريها في جنبات الحجرة الغارقة في الصمت.. أطرقت, فكرت في الوحدة التي تناوشتها طويلًا, هزت رأسها في محاولة يائسة لطرد الأفكار المُتعبة .. مشت باتجاه الباب.. أمام الباب توقفت قليلًا .. فكرت أن تتراجع, قالت لنفسها أنها لن تحتاج سوى للإستدارة عائدةً بضع خطواتٍ إلى الخلف, ترددت, كادت أن تقفل أدراجها خوفًا من ندم قد يلوي قلبها لاحقًا, ألا أن أتصالاً هاتفياً باغتها بصوتٍ أنثوي ناعم, دفعها لأن تمضي إلى الأمام!.
 
في الخارج .. شعرت بالموجودات تخزها بما فيها النسمات الباردة التي لآمست وجهها بلطف, كل شيء كان يصفعها حتى الجمادات وخادمتها التي صادفتها قبالة الباب عائدة بسلة مهملات فارغة وابتسمت لها بودٍّ تعودته.
في السيارة .. حين جلست خلف المقود وبعدما اضاءت المصباح الصغير في سقفها, وحركت المرآة الأمامية لتعكس وجهها, تفاجأت بتفاصيل جديدة تبرز كشرخ يفضح الأسى الذي حرصت على ردمه تحت ثقلٍ من الألوان الباهضة, ها هي التجاعيد الرفيعة تتضح وتتضخم في المرآة. وها هي العدسات ذات اللون الشاهق تُخفق في إخفاء رذاذ الدمع المحتقن بمحجر عينيها!.
بحركة مُرتبكة عَدّلت من وضع المرآة لتعكس الشارع المتأنق بأضواء النيون, نظرت إلى الساعة أمامها فوجدتها تقترب من السابعة والنصف مساءً, الموعد المحدد للقائهما... أدارت المفتاح وانطلقت.
 
بدا الشارع مزدحمًا على غير عادته بالسيارات والراجلين المتنقلين بين ضفةٍ وأخرى تحت سماءٍ ملبدة بالغيم... وقتٌ أضافيٌ لم تحسب له حسابًا يضيع في زحمة الانتظار القلق.. حملقت في الوجوة العابرة بشرود, شيء من الحزن وكثيرًا من الألم تداعى على قلبها .. استحضرت معنى الشارع في ذاتها .. وكل تلك اللعنات التي صبتها عليه في أوقاتٍ كثيرةٍ سلفت .. حين ظل بخواءه المعهود يعكس بفجاجة خواء مدينتها المترفة, خواءها هي.. خواء العالم الذي أختنق حولها بالبرد والبرود.
 
في لحظة وصولها, غام كل شئٍ بداخلها وهوى في قعرٍ سحيق, لعنت نفسها وعاتبتها على ذل الحُلُم! ترددت .. كادت أن تتراجع حين رنت إلى العمارة شاهقة الارتفاع, غير أن دفقاً من بقايا لأمنية قصية, دفعها لأن تمد قدمها إلى الخارج, لتخطو أولى خطواتها باتجاه المبنى, بعدما خبأت عينيها وراء نظارة سوداء كبيرة وأسدلت فوق رأسها شالاً أسوداً خفيفاً.
دلفت إلى الداخل وانعطفت باتجاه المصعد, وقبل أن تضغط بإصبعها على زره تعالى رنين هاتفها بأغنية شجية طرقت قلبها بعنف.
على الجانب الآخر من السماعة يأتي الصوت مترقباً:
- أين أنت ؟, لم تأخرتِ, الرجل لديه ارتباطات كثيرة وهو مستعجل؟
ردت بتلعثم:
- أنا هنا في العمارة, بالضبط أمام باب المصعد.. ثوان وأحضر.
رد الصوت:
- حسناً عزيزتي..في انتظارك!‍‍
أعادت هاتفها إلى حقيبتها, انفتح باب المصعد أمامها فانسلت قطرة عرق من أعلى جبينها خادشةً تناسق البودرة الموزعة بعناية على قسمات الوجه.
دلفت إلى الداخل لتجابهها مرآة تعكس جسدها النحيل بضآلته الكاملة, عدلت سريعًا من ترتيب هندامها وأعادت للبودرة تناسقها بمسحة سريعة من يدها, ريثما يتوقف بها المصعد في الطابق الرابع.
مشت بحذر نحو الباب الذي ألصقت عليه لائحة تعريفية معنونة ب «المكتب الحديث للاستشارات الأسرية», قبل أن تضع يدها على مقبض الباب تلفتت يمنة ويسرة لتتأكد من أنه ما من أحد قد لمحها وهي تخرج من المصعد وتتجه إلى المكتب.
وضعت يدها المعروقة حول مقبض الباب بعد أن خلعت نظارتها وأعادتها إلى الحقيبة, دلفت بوجل إلى الداخل, رفعت رأسها في حذر حين تناها إلى سمعها صوت المديرة مرحبًا وهي تشير إليها بالتقدم أكثر إلى حيث وقف رجل لا تعرفه يحدجها بفضول ويقرأ تفاصيلها بتمعن!.
حين جلست قبالته في مقعد جلدي وثير أختلست نظرة سريعة إليه, هالها أختلاف ملامحه عن الصورة التي أطلعتها عليها مديرة المكتب في وقتٍ سابق, بدا أسمر ذا تقاطيع جامدة وعينين نافذتين بجسد بدين ومترهل, بادرت المديرة بفتح باب الحوار الذي تقرر سلفاً بينهما مخففةً بذلك من وطئة الموقف على نفسها:
- مرحبًا بكما.. حسنًا, لندخل إلى الموضوع مباشرة.. كما أخبرتكما سلفاَ, إن خبراءنا قد اجمعوا بعد بحثهم المطول عبر موقعنا على شبكة الإنترنت على أنكما الثنائي الأنسب لتكوين أسرة متماسكة الدعائم؛ فبينكما قواسم مشتركة, كتوحد الطباع وتماثل الخلق وتقارب الميول والهوايات ..... صمتت قليلًا لتتأمل وقع حديثها عليهما ثم أردفت:
- ولعلكما حين تبدءان بتجاذب أطراف الحديث ستتآلفان بناءً على هذا التوافق فتقرران الارتباط, وقد يحدث العكس لا سمح الله فتلغيان الفكرة!!
نظرت إلى ساعة معصمها سريعاً وأكملت مبتسمة:
- على أية حال, ها أنتما قد التقيتما بحمد الله أرجو أن تتحدثا في الأمور العامة في الوقت الحالي, ولا تنسيا الاتفاق المسبق فيما بيننا, لا أسماء , لا عناوين, لا أرقام هواتف!.
صمتت المديرة وتشاغلت بتقليب أوراق ملف موضوع على الطاولة أمامها, في حين ازداد تبعثرها وتسارعت دقات قلبها الوجل, استشعر مدى قلقها فبادرها بالقول وهو يمعن النظر في عينيها:
- عمرك تسعةُ وثلاثون, أليس كذلك؟
عقدت حاجبيها بدهشة, نظرت إلى المديرة في استعطاف, اسعفتها المديرة بالرد:
- أطلعتك من قبل على بياناتها الشخصية!
رفع سبابته نحوها وتابع مردفًا:
- أحقاً لم يسبق لك الزواج نهائيًا من قبل؟!
- ردت المديرة بانفعال:
- ذلك أيضاً مدون ضمن ورقة بياناتها الشخصية!
أكمل بإصرار:
- عفوًا.. حدثيني عن نفسك, طبيعة عملك, انتماءك القبلي, وضعك المادي و .. كل شيء!!.
 

شعرت بلسع أسئلته المباشرة والفجة, نظرت إلى عينيه الوالغتين في التهامها بقسوة, وزعت ناظريها في أرجاء المكان كأنما تكتشفه للمرة الأولى, برزت لها أخيلة لوجوه كثيرة رمقتها شزراً من وراء زجاج النافذةِ والستارةِ الحريرية وثقب الباب!, همهمت أصوات مبهمة ثم ضحكت عالياً في سخرية, برزت أصابع أفعوانية كمناقير لتنتزع لحم وجهها المتعرق, وهبّت جمادات المكان تُقرّعها:
- أنظري إلى أي مستوى قد أنحدرت؟!! الهذه الدرجة بلغت بك الحاجة لرجل؟!!
 

ارتجفت أوصالها, شعرت بأنها لم تعد تعي حقيقة حاجتها ولم أختارت أن تقصد هذا المكان!!, وجدت نفسها تنتفض كملدوغه من على كرسيّها لترمق المديرة والرجل في حدة مباغته جمدت عينيه الشرهتين على مرأى من غضبها, شهقت كمن صبت على رأسه مياه باردة, لم تفهم الأحاسيس التي باغتتها, لكن ثمة نظرة مختلفة وجارحة لذاك الرجل صعقت كرامتها بحدة, هرولت سريعاً خارج المكتب غير ملتفته لرجاءات المديرة التي تصاعدت مع اعتذارات الرجل, أسرعت تطوي الدرج وتقطعها بأنفاس لاهثة وعيون محتقنة بالدمع, كل شيء عاد ليخزها ويصفعها بقسوة, الجدران, وأشجار الزينة الموضوعة في الممرات المنقوشة والسُلّم و وجهها المخضب بالخزي والألم, تعثرت بذيل ثوبها الطويل, رفعت طرف الثوب بيد ومسحت بالأخرى الدمع الذي انزلق ليتخذ مسارات متفرقة على خدها, سال الكحل مع الدمع فغامت العدسات وبهت لونها, طوت عتبات الدرج كلص جرت الشرطة والناس في أعقابه, أخيرًا وصلت إلى الطابق الأرضي بأنفاس لآهثه لتفاجئ بالمصعد يفتح أمامها ويبرز منه الرجل نفسه, سقطت عيناها أولاً على كرشه وجمدت عند صدره, تسمرت قدماها, أقترب منها مبتسماً وبادرها بصوت فرح:

- حمداً لله الذي مكنني من اللحاق بك! أرجو المعذرة فلربما جرحتك قليلًا!!, لكنه التعارف الأول وليس بوسعي سوى النظر إليك في شك! فأنت كما أرى جميلة, وبرغم هذا فقد بقيت بلا زواج حتى بلغت هذا العمر‍!
نظر إليها بتمعن وأكمل:
- أصارحك بأن ذلك قد أثار في نفسي الدهشة ليس إلا, غير أني أعترف بأنك قد رقتِ لي من النظرة الأولى.
مسح على رأسه وأردف بود:
- سامحيني فقد كنت أنا الآخر مربكاً, أنا أيضاً كبرت في العمر ولم أتزوج بسبب مشاغلي الكثيرة وبودي الآن أن أستقر مع امرأة مناسبة.. ولهذا السبب فقد قصدت المكتب الذي تأكدت من جودة خدماته حين عرفني إليك!
أنفرجت شفتاه عن ضحكة مرحة كشفت تآكل نخر أسنانه, أشار إلى المصعد:
- هيا بنا نعد لنتعرف إلى بعضنا أكثر فالمديرة جد مستاءه!.
ازداد حنقها, نظرت إليه في حده, تمنت لو أن تبصق في وجهه ووجه المديرة... أمام رجولته, عادت إلى ذاتها, حاولت أن تتماسك, زمت شفتيها فخرجت الكلمات من حلقها مبحوحة:
- عذراً, أنا جئت إلى المكتب لأمر آخر, لا شك أن المديرة قد خلطت بين اسمي واسم امرأة أخرى جاءت تطلب خدمة الزواج تلك..
 

نظرت إلى عينيه لترى إن كان قد صدقها, وجدته يهز رأسه ويبتسم, خفضت رأسها وأخرجت من حقيبتها نظارتها السوداء ولبستها في حنق, مشت بخطوات مثقلة إلى الخارج حيث الغيم قد آذن بانهمار المطر, ناداها من خلفها فلم تجب, أدخلت يدها في الحقيبة المبللة متلمسةً مفتاح السيارة من بين علبة مساحيق التجميل ومحفظة البطاقات وأقلام الحبر وهاتفها النقال, فتحت الباب بهدوء مصطنع, جلست خلف المقود, رفعت نظرها قليلاً نحو العمارة, أدارت المفتاح في حين تعلقت عيناها بالرجل الذي مضى يتلمس في المواقف سيارته, استعادت في ذهنها البريق الكاسر في عينيه, إنزلقت دمعة سخينة من عينها, لفت المقود عائدةً أدراجها, في حين كان المطر يجلد الشارع المسفلت حولها بقسوة!



ثانيا : قراءتي النقدية 




الثنائيات الضدية
في قصة " صراخ الاسمنت "
للكاتبة أ / حنان المنذري

تتناول هذه القصة موضوعا شائكا ومؤلما ، مؤرقا وملحا في آن واحد .. متعدد النواحي والشعاب ليمتد فيكون أشبه بصراخ في وجه المجتمع . إنه يتكلم عن قضية التأخر في الزواج ( العنوسة ) وكيف يزج المجتمع بمن قدر لها ذلك إلى أن تغير الكثير من نفسها وتتنازل عن أشياء وتحمل نفسها ما لا تطيق وما اعتادت اضّجاره في الماضي من أجل البحث عن ... زوج !
فكيف يمكن لفتاة مرفهة تعيش عيشة مترفة ( جميلة ولديها خادمة وسيارة خاصة بها وترتدي أفخر الثياب ) ومع ذلك تظل تتردد على مكتب للزواج لتكون على موعد مع غريب لا تعرف عنه سوى صورة زائفة ومحض معلومات ، فتشعر بأنها كمن يتلصص أو يخشى من هجوم الشرطة عليه:

" قبل أن تضع يدها على مقبض الباب تلفتت يمنة ويسرة لتتأكد من أنه ما من أحد قد لمحها وهي تخرج من المصعد وتتجه إلى المكتب" .. ولا ترد الكاتبة على هذا السؤال لماذا تتأخر من لديها تلك المؤهلات عن الزواج .. ويفكر المتلقي لعله غلو المهور .. تعنت الآباء .. لعله .. أو لعله ... إذن فهي تطرح المشكلة فقط

لكن المميز بهذا النص أكثر من هذه الفكرة التي تم تناولها في الكثير من الأعمال وبطرق شتى هو جمال الأسلوب واستخدام الرموز الإيحائية في صورة ثنائيات ضدية تعكس الحالة النفسية للبطلة بمهارة فائقة .

ومما هو جدير بالذكر أن الكاتبة كانت موفقة جدا في استخدام وجهة نظر " الراوي العليم " فهذا الراوي يتعامل مع الشخصيات كما لو كانت شديدة الشفافية وكأن المكان حولها محاط بالكاميرات والميكروفونات ؛ فهو ذو وجود ملموس من خلال التعليقات والأحكام التي يطلقها ، ينطلق حرا بلا قيود فيشق صدور الشخصيات ويغوص بداخلها ، مثال ذلك :

" برزت لها أخيلة لوجوه كثيرة رمقتها شزراً من وراء زجاج النافذةِ والستارةِ الحريرية وثقب الباب!, همهمت أصوات مبهمة ثم ضحكت عالياً في سخرية, برزت أصابع أفعوانية كمناقير لتنتزع لحم وجهها المتعرق, وهبّت جمادات المكان تُقرّعها: - أنظري إلى أي مستوى قد أنحدرت؟!! الهذه الدرجة بلغت بك الحاجة لرجل؟!! "

فاستطاعت باقتدار أن توظف أسلوب الرواية ( وجهة النظر ) مع الرموز الإيحائية بالنص من أجل خدمة الفكرة الرئيسة بالنص وهذا ما سيتم تناوله في هذه القراءة...

تستخدم الكاتبة في قصتها عددا من الثنائيات الضدية من خلال عدد من الرموز الإيحائية :

** ( المرآة- " التسريحة / السيارة / المصعد " ) --- في مقابل ( النظارة السوداء والمكياج والشال الأسود )
** ( صعود المصعد )--- في مقابل ( هبوط الدرج )
** ( الشارع الأسفلتي الخاوي )--- في مقابل(الشارع الأسفلتي المبتل من المطر )



1- ** ( المرآة- "التسريحة / السيارة / المصعد" ) x ( النظارة السوداء والعدسات والمكياج والشال الأسود ) --- ( الظهور x الاختباء ) :


مشهد المرآة متكرر بصورة ملحوظة في هذا النص .. فمن المعروف كيف يتم دائما ربط المرآة بفكرة الزيف والحقيقة ، فكثير من النصوص تناولت فكرة المرآة أنها لا تعكس الحقيقة دائما وهناك مؤامرة بينها وبين الأضواء لتغيير الحقيقة ، ونصوص أخرى تناولت المرآة التي تعكس الداخل والخارج على السواء ، أما في هذا النص فقد استخدمت الكاتبة فكرة " المرآة الكاشفة " التي تعكس الصورة الخارجية متأثرة بالحالة الداخلية للإنسان وما كان هذا ليتأتى لولا استخدام رواية" الراوي العليم "

في المشهد الأول ، ها هي البطلة تحاول جاهدة أن تلعب ( بالمكياج ) والألوان والعدسات اللاصقة من أجل تغيير شكلها

"جلست أمام مرآة التسريحة لترسم على صفحة وجهها «مكياجًا» متقنًا سيحيلها إلى امرأة مختلفة.. امرأة أجمل وأكثر أنوثة.. وأهم من ذلك, امرأة لا تشبهها! ..."

وقد سمّت ( المكياج ) بلعبة الألوان وإنه من المعروف أن الألوان توضع لإظهار مفاتن الصورة وجمالياتها إلا ان الألوان هذه المرة كان لها دور مغاير وهو أن ترسم امرأة لا تشبهها ! .. إنها تحاول الهروب من صورتها الحقيقية أو تحاول إخفائها كي لا يعرفها أحد وكأنما تضع قناعا ملونا على وجهها !

وربما تكون قد نجحت في لعبة الألوان تلك مع مرآة التسريحة لكن كلما ازدادت البطلة اقترابا من الموقف " المقابلة " كلما اتضح مدى فشل هذه اللعبة فها هي من جديد أمام المرآة ولكن هذه المرة مرآة السيارة :

" وحركت المرآة الأمامية لتعكس وجهها, تفاجأت بتفاصيل جديدة تبرز كشرخ يفضح الأسى الذي حرصت على ردمه تحت ثقلٍ من الألوان الباهضة, ها هي التجاعيد الرفيعة تتضح وتتضخم في المرآة. وها هي العدسات ذات اللون الشاهق تُخفق في إخفاء رذاذ الدمع المحتقن بمحجر عينيها!."

فمرآة السيارة تخونها وتعكس دقائق وجهها التي تحاول كثيرا إخفاءها ولكنها كانت قد ركبت السيارة وفارقت ألوانها ؛ ففي محاولة جادة لإجادة لعبة التخفي هاهي البطلة تقوم بارتداء نظارة سوداء وإسدال شالا أسود خفيفا ، رغم أن الوقت كان ليلا :" كادت أن تتراجع ... غير أن دفقاً من بقايا لأمنية قصية, دفعها لأن تمد قدمها إلى الخارج .. بعدما خبأت عينيها وراء نظارة سوداء كبيرة وأسدلت فوق رأسها شالاً أسوداً خفيفاً."
ومن جديد تمثل أمام المرآة للمرة الأخيرة في محاولة للتأكد من اختفاء ( حقيقتها ) تماما وفي محاولة لإنجاح لعبة الألوان .. لكن مرآة المصعد كبيرة تعكس ليس منظر الوجه ولا حتى منظرا مقربا ( زووم) على الوجه فحسب وإنما تعكس الجسم بأكمله بجميع تفاصيله ليدفعها من جديد إلى إعادة الترتيب لشكلها الخارجي والتأكد من وجود القناع ويزيد الاضطراب إذ صارت قاب قوسين أو أدنى من المقابلة

"دلفت إلى الداخل لتجابهها مرآة تعكس جسدها النحيل بضآلته الكاملة, عدلت سريعًا من ترتيب هندامها وأعادت للبودرة تناسقها بمسحة سريعة من يدها, ريثما يتوقف بها المصعد في الطابق الرابع."

لكن رغم محاولات البطلة المستميتة من أجل إخفاء حقيقتها إلا أن لقائها المرتقب كان له من العمل الكثير في هدم قواعد هذه اللعبة من خلال النظرة الفاحصة الثاقبة إلى دواخلها من قبل الرجل المتقدم لزواجها من المكتب ، نظرة كانت أقوى من مجرد انعكاس صورة على مرآة ، وإنما كانت اختراقا صريحا للقناع " شعرت بلسع أسئلته المباشرة والفجة, نظرت إلى عينيه الوالغتين في التهامها بقسوة"
فكان هدم ذلك البناء الملون وتآكل الألوان وشعورها الذاتي بسقوط القناع الذي كان يحمي كرامتها فبتساقطه من وجهها كأنما قطع اللحم من وجهها تتساقط خزيا وخجلا من فعلها :

" رفعت طرف الثوب بيد ومسحت بالأخرى الدمع الذي انزلق ليتخذ مسارات متفرقة على خدها, سال الكحل مع الدمع فغامت العدسات وبهت لونها "


2- ** ( صعود المصعد ) x( هبوط الدرج ) --- ( الوصول إلى الغاية ) x ( الفشل في الوصول إلى الغاية ) :


المصعد ما هو إلا أداة من أجل الوصول إلى غاية ما ، وكان للاقتران بين الصعود والهبوط أثر كبير في عكس الفكرة المهيمنة على القصة وبيان الشعور النفسي في الحالتين والذي صورته طريقة الرواية باقتدار

فمثلا كانت حالة الصعود : " أعادت هاتفها إلى حقيبتها, انفتح باب المصعد أمامها فانسلت قطرة عرق من أعلى جبينها خادشةً تناسق البودرة الموزعة بعناية على قسمات الوجه."

إنه لا يزال الترقب والتوجس من تلك المقابلة والحرص على ذلك القناع الملون من السقوط خشية تساقط لحم وجهها على أثره لا مجرد انكشاف الغطاء عنه ، إنها الخشية على الكرامة من أن تخدش أو ينفذ إليها نافذ

أما عند هبوط الدرج بعد شعور البطلة بالامتهان من أسلوب المقابلة وما اكتشفته من زيف بين صورة الرجل وحقيقته مما أيقظ عندها هاجس ذلك الزيف الذي تحاول اصطناعه هي الأخرى .. فكان الشعور بالخزي والألم والتخبط الموجع الذي جعلها تأخذ الدرج بدلا من المصعد وكأن روحها تتكسر معها في كل درجة من درجات الدرج:

"هرولت سريعاً خارج المكتب ... أسرعت تطوي الدرج وتقطعها بأنفاس لاهثة وعيون محتقنة بالدمع, كل شيء عاد ليخزها ويصفعها بقسوة, الجدران ... وجهها المخضب بالخزي والألم .."


3- ** ( الشارع الأسفلتي الخاوي ) x(الشارع الأسفلتي المبتل من المطر ) --- ( اللامبالاة ) x ( الجَلْد ):

الشارع يحمل معان كثيرة في طياته وتأويلات عدة .. لكن في هذا النص بالتحديد ، يلاحظ المتلقي أنه ذكر مرتين قبل وبعد مقابلة البطلة للرجل

قبل المقابلة :
"استحضرت معنى الشارع في ذاتها .. وكل تلك اللعنات التي صبتها عليه في أوقاتٍ كثيرةٍ سلفت .. حين ظل بخواءه المعهود يعكس بفجاجة خواء مدينتها المترفة, خواءها هي.. خواء العالم الذي أختنق حولها بالبرد والبرود."

إنه ذلك المعنى لكل ما يتخلى عن أمثال هذه البطلة عندما يشعرها كم هي كمّا مهملا بلا داع في الحياة لأنها ( تأخرت في الزواج ) .. عندما يعاملها ببرود وكأنها أجرمت بعمل شيء رغم أن لا يد لها فيه إنه ذلك البرد والبرود الذي تعامل به أمثال تلك البطلة حتى يكاد يخنقها فلا يحتضنها ولا يتفهمها وإنما يزيد على غربتها غربة أخرى .. إنه ذلك المجتمع الذي يسلط ( أنواره النيون ) على وجهها بفجاجة يترقب تحركاتها وهمساتها ويحاسبها على غير أفعالها ، فهي لا مبالاة صارخة تكاد تقتل أمثال البطلة كمدا
بعد المقابلة :
" انزلقت دمعة سخينة من عينها, لفت المقود عائدةً أدراجها, في حين كان المطر يجلد الشارع المسفلت حولها بقسوة!"

بعدما حاولت التخلص من الزيف الذي زجّها إليه الشارع ( المجتمع ) وبعدما تلاشى قناع الألوان الذي كانت تخفي تحته كرامتها ، هاهو الآن يجلدها.. بقسوة شديدة بلا رحمة ، فيعاتبها بعد المقابلة بقسوة أكثر من قبل المقابلة ... فكان الخواء قبل المقابلة والجلد القاسي بعدها ! ، فيجلدها بوابل من الكلمات وأنواعا من السخرية والتعنيف فكأنه مطر متسلط عليها من الأعلى .


فلا شك أنها تصرخ بعد ذلك .. إنه " صراخ أسمنتي " وهنا تظهر الفجوة بين ( صراخ ) و ( أسمنت ) لدى المتلقي ، فكيف يكون صراخ الأسمنت ؟! ، إنه صامت صلد صراخ داخلي لا يستطيع الخروج لا يشعر به أحد شديد الكتمان

وفي الختام أرى أن هذا النص كان موفقا فكرة ولغة وأسلوبا ورؤية إلا أنه يمكن أن يكون أكثر إبداعا لو كان أكثر تكثيفا على ما أرى .. كما أن النص كان بحاجة إلى مراجعة إملائية وإعرابية قبل النشر لوجود أخطاء به



شكرا جزيلا لقلمك الراقي
أ / حنان المنذري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق