عروش الزجاج
سوداءُ تسعى , تلتقفُ القنادِيلَ , تَنهشُ نَبعَي الحياة , تبني عروشَاً , تمدُّ الآمالَ لِتشربَ دماءَ الجبالِ ... الفأسُ بيدِ فلاحةٍ تقلعُ حجرةً , تغرسُ شجرةً , فتُذكي بروجُ الرعبِ في آمالهم .
( منتظر السوّادي )
القراءة النقدية ..بقلم : دينا نبيل
عروش الزجاج
غريبة جدا هذه العروش؟
ما عرفت العروش إلا بارتفاعها وشموخها وارتباطها بالملك والسلطان والقوة .. تلتفت إليها الرؤوس وهي مرصعة باللآلئ ومصنوعة من أمتن واجود الأخشاب .. فإذا كانت هذه العروش من الزجاج ، فإن الأمر مختلف!
كيف يكون عرش الزجاج ؟
سؤال مهم : ( عرش الزجاج وليس عرشا زجاجيا )؟
العرش الزجاجي : بللوري قد وظف الزجاج في حالته خصيصا ليكون عرشا وطوعت خصائص الزجاج ليناسب وظيفته الجديدة (العرش)
أما عرش الزجاج : فهنا وقع العرش اسير خصائص الزجاج بعكس العرش الزجاجي
فعرش الزجاج يتصف بصفات الزجاج : ضعيف – يشف عما في داخله – خاوٍ - يتكسر فيؤلم ويجرح من يمسكه وينزف الدماء – صوت الزجاج يرتد من عليه بعكس صوت الخشب المصمت الذي يبتلع صوته ابتلاعا
وإذا ما وقعت عليه آشعة الشمس فإنه لا يمتصها كالخشب .. بل تنعكس من على سطحه فتتلألأ وتلمع – فيكون كاذبا خداعا يحسبه الناظر أنه الكريستال ولكنه .. زجاج !!
هذا العنوان على بساطته الظاهرية إلا أنه يحمل في طياته الرسالة الرمزية لهذه القصة القصيرة جدا التي بين أيدينا ..
ينقسم هذا النص إلى جزئين :
المقطع الأول : عناصر الهدم والبناء الزائف:
1- عناصر الهدم :
" سوداء تسعى .. تلتقف القناديل .. تنهش نبعي الحياة .."
إن التصوير في هذا المشهد في غاية الجمال والترابط وهذا يصور في رؤيتي .. (حية) سوداء تتحرك خلسة فتلتقف القناديل لتزيد الأمر سوء فيطفأ النور ويسود الظلام .. فتسعى في خفاء وظلام وهي سوداء فتأخذ تنهش نبعي الحياة ولا يخلو نهش الحية من تسرب سمّها إلى النبع فيزيد على المشهد عنصر الموت والقتل ليكتمل بذلك عنصر الدمار
2- عناصر البناء الزائف:
" تبني عروشا .. تمدّ الآمال ..لتشرب دماءَ الجبال.."
يكمل هذا المشهد ما قبله فلا بد من إعقاب مشهد الهدم والدمار ببعض البناء وإن كان واهيا زائفا بلا أساس راسخ في الأرض كمن يبني بيتا من الرمال على شاطئ البحر .. فتبني هذه الحية السوداء العروش .. وتمد الآمال فيظن الانسان أنها عروش شامخة عظيمة ممتدة ..لكنها لا تتعدى كونها "آمال" فقط وهذه العروش كما تقدم في العنوان عروش زجاج وهذا قمة الخداع .. فهي آمال واهنة وعروش رقيقة تتكسر إذا ما ألقيت عليها حجرة .. يرون فيها انعكاس صورهم كانها تستهزأ بهم .. لن تقوى على الوقوف في وجه الزمن وإن تكسرت فإن أول المتضررين هم من يمسكون بها ويضغطون عليها بثقة .. لكنها تخونهم وتنكسر!
ثم تشرب دماء الجبال وخيراته فتذرها حصى وترابا ثم تأخذ الأرض تتزلزل من تحتهم وتتماوج .. فما عاد لها اوتاد!
المقطع الثاني : البناء الحقيقي : "الفأسُ بيدِ فلاحةٍ ..تقلعُ حجرةً , تغرسُ شجرةً "
هو مشهد البناء الحقيقي .. قد يظهر انه ضعيف ويأخذ وقتا طويلا فما هو إلا عمل فِلاحة تقوم به امرأة .. هذا المشهد يقف في المقابل مع مشهد التشييد الزائف لبعض الامال حيث لم تقدم أية خطوات عملية لبناء هذه الآمال
لكن في هذا المقطع يظهر الكاتب بناء آخر يظهر بسيطالكنه عملي حقيقي عناصره ( الفأس – الفلاحة – الشجرة ) فهذا بناء حقيقي يقوم على اقتلاع العثرات وزرع الشجيرات لزرع الحياة من جديد في تلك الأرض
وكانت النتيجة :
" فتذكي بروج الرعب في آمالهم "
هناك تشييد ثالث غير مقصود حدث : ( بروج الرعب ) التي ظهرت نتيجة خوف أصحاب العروش الزائفة ... فبروج الرعب يقابلها عروش الزجاج التي تمد بها الآمال وهذا يعضد مرة أخرى الفارق بين البناءين الأول العروش بهشاشتها وبريقها الزائف .. والثاني ( تذكي بروج الرعب ) فهو بناء منظم كما رصّ البروج في السماء
ويلاحظ الفارق : البروج : مرتبطة بالسماء
العروش في الأرض "
التأويل :
هذا النص أشبه ما يكون بالأحجية .. فهو شديد الرمزية
فهذه الحية السوداء تمثل دولة الاحتلال تسعى كالحية لتقضي على أي ضوء حولها كي لا يدرك أحد فعلها .. ثم تنهش وتسمم نبعي الحياة ( دجلة والفرات ) وتأخذ تبني الآمال الواهية حول العدالة والديمقراطية وكثير من الالفاظ الضخمة الكبيرة لكن بلا بناء حقيقي .. وبينما الكل منشغل تأخذ تشرب من دمائهم وخيراتهم ونفطهم
لكن يأبى ذاك الشعب العظيم إلا أن يقاوم ببنائه الآخر المحكم على بساطته المغروس في الأرض كالشجرة ذي أساس عميق لذا فهي تحتاج وقتا طويلا
فيرعبهم هذا البناء الجديد الصغير وتفت في آمالهم التي وضح للعيان مدى ضعفها
وقد تؤول تلك الحية أيضا بالفتنة كيف تنهش في الوطن وتسلبه الحياة والخيرات فتكون المقاومة بإزالة العثرات الداخلية للبلاد ( الحجرة ) وغرس شجرة مكانها
هذا في رأي المتواضع لكن يبقى من يُنهش لحمه ويُشرب دمه هو عراقنا الأصيل
حفظ الله عراقنا وسائر بلاد المسلمين
لك كل الشكر والتقدير أ منتظر السوادي
تقبل تحياتي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق