المَوْلِد الكَبير
نحو السماء ارتفعت الدفوف ، وسط الجموع المحتقنة تشق طريقها إلى ناحية من الساحة ، في حلق وقف حاملوها يهزونها ، وسريعًا نزلت عليها الأكف ضربًا يقرع غطاء السماء ، يخرس صخبًا أصمًا. سكت الجميع هنيهة والتفوا حولهم ، الرؤوس تومئ مع الضربات ،الأعواد تتمايل ، والأذرع تتأرجح ، وبدأ التصفيق يعلو .. ويعلو .
تفرقت الشخوص المترنحة وتوقف القرع فجأة على إثر صليل أجش يجلجل في الصدور .. قائد المسير " أبو ( طرطور ) " ، عصاه الغليظة بثبات تنقر الأرض ، يده النحيلة تتحسس لحيته الفضية ومسبحته الكهرمانية الطويلة حول عنقه الأسمر ، على خطوه يعدو صف من المجلببين منكسي الرؤوس رافعي أعلاما ملونة قد اعتمروا ( طراطير) خضر من ورق ، تتعاهدها أيديهم بالرفع كما لو كانوا في تحية مستمرة .
بإشارة من عصاه تجمعوا حوله ، شاخصًا نحو السماء الحالكة ينظر النجم المرتقب :
-- " اللهم صلي عليك يا نبيييييي ! "
ورجع الإيقاع ينساب بين الدقّ والترنح والصياح يضبطه شيخ " السيمفونية " بعصاه الخشبية ..
" الله .. حي .. الله .. حي ! "
الوجوه تتقلب يمنة ويسرة ، الجذوع تتثنى ثملة مع الضرب المستمر ، بقوة يطوّحها أصحابها إلى الأمام وإلى الخلف ، وأُغمضت الأعين في ارتقاب نشوة لارتقاء سلم القربى أو سلوك دروب العرفان .. وأُغمِضَت أخرى أثقلها الوهن فتوسدت كتفا ملاصقا .. فافترش هؤلاء أرضا ( مُشَمَّعة ) تَخِز أكبادهم بإبر باردة .. متململةً تتمطى أطرافهم لتلتقط لقيمات خليطها غبار الأسفلت بين أنامل فاقدة الإحساس .
وصاحب المولد تتواثب نظراته حول حمى الخيام المعقودة منذ أسبوعين تلاحق ذكريات أمس ولّى
-- " لقد أتوا من صحراء الأهرامات .. يقلقهم المولد !! "
-- " وأين نحن من الأهرامات ؟ ... شيء لا يصدق ! "
مكرون مفرون من زمن امرئ القيس لا يظهر منهم سوى أعين مات فيها النور ، تلوّح أيديهم بسيوف وسلاسل حديدية يضربون من يعترضهم من رفاقه ، يمتطون بالخيول والبعير أكتاف أصحاب طريقته ليعيدوا خطّ ذكرى الجمل المعقور والهودج الشريف وسيوف اصطكت في فتنة عظمى . ولم تكن سوى سويعات تطوّق انتظارهم حتى لفظت النوافذ والشرفات القنان الحارقة لتحصد منهم ما تشاء ، أجساد مشتعلة تهيم في الطرقات تتمرغ في الأرض علّ التراب يخمدها .. الكثير يريدون نقض المولد .. يَصِمونهم بالعته والشعوذة وولوج مسارب المستحيل !
الأصوات تلعلع تئد رعدا لاهثا لتبتلعه السماء ، الأعين شاخصة إلى أعلى تتابع البريق اللامع يشرخ السواد ، ينبسط في براحه عروقا ملتوية سرعان ما تتلاشى في العتمة الطاغية ، المطر يتقاطر من الأجسام المتراقصة يغسل عناء أيام مضت .." يا فرج الله ! .. فُتحت السماء! " .. الأصوات ترجها ، نشوة باردة اجتاحت أبا ( طرطور ) جعلته يلقي بعصاه ويرعش كفيه ويصرخ .. ويزيد في التثني فما عاد ( للطرطور ) مستقر فألقاه ..
-- " الله حي ! .. شعبنا (جاي ) .. انصرف .. انصرف ! "
صدحت الأصوات المبحوحة تقطعها الأنفاس المتهدجة على إثر صراخ أبي ( طرطور )
-- " انصرف .. ارحل !! "
تتمايل الجذوع الآيلة للسقوط صارت تتسند على بعضها .. وارتمى صاحب ( الطرطور ) على الأرض يتلوّى كالأفعى . . " الله أكبر ! "
...
وتعالت أصوات قهقهات وتصفيق متناثر ، وبسرعة امتدت الأيادي لأبي ( طرطور ) تجذبه .. ليعتدل ضاحكًا ينفض عن ردائه الطين العالق به ويحيي من أبدوا الإعجاب .. حوله وميض وأصوات التقاط صور من ( كاميرات ) الهواتف النقالة ..
ووسط موجة الضحك التي شملته وأتباعه ، أعادوا ( الطراطير ) لأصحابهم لتصلح لفافات لشطائر الغد ، ثم رفعوا الأعلام من جديد ، وقد تبدلت الملامح
.. " ارحل .. ارحل ! "...
يحملها الهواء فتعانق أنغامًا في ناحية أخرى من ساحة التحرير ، قد اعتلى صاحبها خشبة مسرح يعزف على ( جيتاره ) .. نفس الكلمات بلحن عصري بينما التحف جمهوره بأغطية ( المُشَمَّع ) تتقافز عليها القطرات لترسم وجوهًا باسمة ترتجف .. علاها ظل تماويج الأمطار..
والكاميرات تصور من قريب ومن بعيد
لتختزل الساحة في عناصر قليلة : الأفق الرمادي المظلم ، والمصابيح الباهتة ، والأجسام المتلاحمة ... ( والمُشَمَّع ) !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق