الأحد، 25 ديسمبر 2011

شريطة حمراء - قصة قصيرة



شَـرِيـطَــةٌ حَمْـــرَاءُ


الماء الدافئ يُمطرني ، يتخلل الغوائر من جسدي .. في المغطس أنزل ، وفي الماء أغوص ، حتى أنفي .. أغوص ، البخار يتصاعد ، أبحث عن ثغرة أتنفس منها .. أصابعي تذوب يأكلها الماء ، أطرافي تطفو ، تنفصل عن جسدي المتهرئ .. رويدًا ، رويدًا ، يسبح كلّ منها في اتجاه ، تتشبث بجوانب المغطس .. تشهق .. وتصعد!.

تناولَتْ المناديل تتتبع بقايا مساحيق التجميل العالقة بوجهها ، تمسح بكفها بخارًا وقطراتِ ماءٍ علتِ المرآة .. المرآة تنتح من جديد، بدت صورتُها متعرجة ، تشقها مجارٍ رفيعة تسيل وتقطر .. " لم تكن أنت السبب، أيها العزيــــز!!"

لم يكن أنت حينما حملني الرواق الطويل يتموّج من تحت قدمي .. يتقاذفني جانباه ، وأنا أستنجد بأهل بيتي كي يدركني أحدهم ، ربما جاء طبيبٌ أو أُخذتْ مني عينةٌ إلى معملٍ .. وبعدها، اكتشفتك بداخلي، لم أحزن ! .. ربما أنا حزينة لأنك لست أنت وحدك الآن بداخلي .. لم أتوقع أنني أحمل توأمًا لك؛ بينما تتفتق أنت مني وتكبر حثيثاً على عيني ، كان هو مستكينًا يتأملُني على مهلٍ. كيف منذ ذلك الحين ، واللون الأبيض يلاحقني في كل شيء .. الناس، الأَسِرّة والحوائط، حتى الفراغ صار أبيض .. يقهر ألواني وجسدي ، أردتُ استفزازَه بشعرٍ مستعارٍ أسودَ ، وملابس فضفاضة مبهرجة الألوان رغم استهجان زوجي لمنظرها وتحاشيه النظر إليّ عند ارتدائي إياها ، فما تكون إجابتي ساعتها سوى " أريد أن أتشبث بما بقي لي من أنثى!".

ربما كانت أنثى ، الآن هي تزحف في أركان مملكتها النائية ، تلملم صورًا متوارية خلف قضبان متآكلة ، لتعارك بها زوايا استبدت بواجهتها الجديدة ، تصرّ أن تحشرها داخل نافذة مغلقة ، منطوية عن العالم .. إلا أنّ فرعًا منها يشدّها ، فتفتح نوافذها من أجل " زهرة " ذات سنوات تسع ، تلّون عالمها الأمهق.. تجلس إلى جوارها تتابعها بعينين غائرتين ، تشتم عبيرها الطفولي ، فتحيلها عروسًا من جديد .

- " زهــرة .. هل عدتِ ؟ "
تعالَي ! .. كم أودّ لو أعيدكِ إلى بيتكِ الأول، حينما كنّا شيئًا واحدًا خاصًا جدًا !، أتسمّع إلى نبضكِ كي أتيقن أنّ ثمّة حياةٍ بريئة .. صغيرة تنمو بداخلي، أتوق لتلقفها بين ذراعيّ!، الآن وقد دُنِّس بيتكِ، فما عاد يُخرج إلا مخلوقات مشوهّة .. أُلتَهم وإيّاها من كائنٍ ضبابي يغورُ في أوصالي .. ولا أستطيع الدفاع!.

- " أمي ، غيّري لي ملابسي ! "
لمَ ؟! .. مُربيتها دومًا تفعل هذا ، فلمَ اليوم تطلب منها! .. مضطربة هرعت تغسل يديها بالماء الساخن حتى كادت تنفجر منها الدماء، رائحة المعقم النفاذة أذهبت رائحة الرأس الطفولي. بأطراف أصابعها تحلّ شريطة حمراء معقودة حول ذيل حصان بني حريري .. تتعرق يداها.. فتحة القميص ضعيقة تنزلق من بين أصابعها.
...
- " أمي ، لا أرى .. أختنق !! "
- " سيدتي ، ما الأمر ؟! .. دعيها .. أنا سأُلبسها ملابسها وأحضّر لها العشاء! "

الشريطة الحمراء في يدها، تدُسُّها في دُرج ملابسها الداخلية ، تلفّها حول ورقة كجذع شجرة منكمش.
ونحو السرير توجهت ، وتحت غطائه الوثير تغوص .. كلها تغوص، تنتشر أطرافها الذاوية زاحفة في الدفء .. لتمتد بعد دقائق يدٌ تبحثُ عن أنثاها في ثنايا الفراش .. يدٌ كثيرًا ما أبعدها جدارُ الصدّ مؤخرًا، والآن عزمتْ على تمزيقِ الجدار والنزول على ستره الغريب هتكًا وتقطيعًا ، ليرى ما الذي جَدّ ! .. لمَ التمنّع وهي تستطيع ؟! .. حتماً هي تعلم أنها تستطيع !

انتفضت مسرعة تسترُ نفسها أمام نظراته المذهولة .. تفتحُ الدرج وتخرج جذع الشجرة ، تحلّ منه شريطة " زهرة " الحمراء ، وتدفع إليه بيدٍ مرتعشة ورقةً تعلوها (شريطة حمراء) ..

- " أنا عندي الإيدز !!".
________
*الشريطة الحمراء: هي الرمز الدولي للتضامن مع مرضى الإيدز، وهي توحى بالأمل ومحاربة هذا المرض وعدم الاستسلام له ؛ لذا فتظهر هذه العلامة في أوراق التحاليل وكل التقارير الصادرة من مراكز علاج مرض الإيدز.


الخميس، 22 ديسمبر 2011

المولد الكبير

 
 
المَوْلِد الكَبير



نحو السماء ارتفعت الدفوف ، وسط الجموع المحتقنة تشق طريقها إلى ناحية من الساحة ، في حلق وقف حاملوها يهزونها ، وسريعًا نزلت عليها الأكف ضربًا يقرع غطاء السماء ، يخرس صخبًا أصمًا. سكت الجميع هنيهة والتفوا حولهم ، الرؤوس تومئ مع الضربات ،الأعواد تتمايل ، والأذرع تتأرجح ، وبدأ التصفيق يعلو .. ويعلو .

تفرقت الشخوص المترنحة وتوقف القرع فجأة على إثر صليل أجش يجلجل في الصدور .. قائد المسير " أبو ( طرطور ) " ، عصاه الغليظة بثبات تنقر الأرض ، يده النحيلة تتحسس لحيته الفضية ومسبحته الكهرمانية الطويلة حول عنقه الأسمر ، على خطوه يعدو صف من المجلببين منكسي الرؤوس رافعي أعلاما ملونة قد اعتمروا ( طراطير) خضر من ورق ، تتعاهدها أيديهم بالرفع كما لو كانوا في تحية مستمرة .

بإشارة من عصاه تجمعوا حوله ، شاخصًا نحو السماء الحالكة ينظر النجم المرتقب :

-- " اللهم صلي عليك يا نبيييييي ! "

ورجع الإيقاع ينساب بين الدقّ والترنح والصياح يضبطه شيخ " السيمفونية " بعصاه الخشبية ..

" الله .. حي .. الله .. حي ! "

الوجوه تتقلب يمنة ويسرة ، الجذوع تتثنى ثملة مع الضرب المستمر ، بقوة يطوّحها أصحابها إلى الأمام وإلى الخلف ، وأُغمضت الأعين في ارتقاب نشوة لارتقاء سلم القربى أو سلوك دروب العرفان .. وأُغمِضَت أخرى أثقلها الوهن فتوسدت كتفا ملاصقا .. فافترش هؤلاء أرضا ( مُشَمَّعة ) تَخِز أكبادهم بإبر باردة .. متململةً تتمطى أطرافهم لتلتقط لقيمات خليطها غبار الأسفلت بين أنامل فاقدة الإحساس .

وصاحب المولد تتواثب نظراته حول حمى الخيام المعقودة منذ أسبوعين تلاحق ذكريات أمس ولّى

-- " لقد أتوا من صحراء الأهرامات .. يقلقهم المولد !! "
-- " وأين نحن من الأهرامات ؟ ... شيء لا يصدق ! "

مكرون مفرون من زمن امرئ القيس لا يظهر منهم سوى أعين مات فيها النور ، تلوّح أيديهم بسيوف وسلاسل حديدية يضربون من يعترضهم من رفاقه ، يمتطون بالخيول والبعير أكتاف أصحاب طريقته ليعيدوا خطّ ذكرى الجمل المعقور والهودج الشريف وسيوف اصطكت في فتنة عظمى . ولم تكن سوى سويعات تطوّق انتظارهم حتى لفظت النوافذ والشرفات القنان الحارقة لتحصد منهم ما تشاء ، أجساد مشتعلة تهيم في الطرقات تتمرغ في الأرض علّ التراب يخمدها .. الكثير يريدون نقض المولد .. يَصِمونهم بالعته والشعوذة وولوج مسارب المستحيل !

الأصوات تلعلع تئد رعدا لاهثا لتبتلعه السماء ، الأعين شاخصة إلى أعلى تتابع البريق اللامع يشرخ السواد ، ينبسط في براحه عروقا ملتوية سرعان ما تتلاشى في العتمة الطاغية ، المطر يتقاطر من الأجسام المتراقصة يغسل عناء أيام مضت .." يا فرج الله ! .. فُتحت السماء! " .. الأصوات ترجها ، نشوة باردة اجتاحت أبا ( طرطور ) جعلته يلقي بعصاه ويرعش كفيه ويصرخ .. ويزيد في التثني فما عاد ( للطرطور ) مستقر فألقاه ..

-- " الله حي ! .. شعبنا (جاي ) .. انصرف .. انصرف ! "

صدحت الأصوات المبحوحة تقطعها الأنفاس المتهدجة على إثر صراخ أبي ( طرطور )

-- " انصرف .. ارحل !! "

تتمايل الجذوع الآيلة للسقوط صارت تتسند على بعضها .. وارتمى صاحب ( الطرطور ) على الأرض يتلوّى كالأفعى . . " الله أكبر ! "

...
وتعالت أصوات قهقهات وتصفيق متناثر ، وبسرعة امتدت الأيادي لأبي ( طرطور ) تجذبه .. ليعتدل ضاحكًا ينفض عن ردائه الطين العالق به ويحيي من أبدوا الإعجاب .. حوله وميض وأصوات التقاط صور من ( كاميرات ) الهواتف النقالة ..
ووسط موجة الضحك التي شملته وأتباعه ، أعادوا ( الطراطير ) لأصحابهم لتصلح لفافات لشطائر الغد ، ثم رفعوا الأعلام من جديد ، وقد تبدلت الملامح

.. " ارحل .. ارحل ! "...

يحملها الهواء فتعانق أنغامًا في ناحية أخرى من ساحة التحرير ، قد اعتلى صاحبها خشبة مسرح يعزف على ( جيتاره ) .. نفس الكلمات بلحن عصري بينما التحف جمهوره بأغطية ( المُشَمَّع ) تتقافز عليها القطرات لترسم وجوهًا باسمة ترتجف .. علاها ظل تماويج الأمطار..

والكاميرات تصور من قريب ومن بعيد

لتختزل الساحة في عناصر قليلة : الأفق الرمادي المظلم ، والمصابيح الباهتة ، والأجسام المتلاحمة ... ( والمُشَمَّع ) !!


الأحد، 11 ديسمبر 2011

قراءة في ( الرسالة الثانية - مع شيخ الجنّ ) للشاعر منتظر السوّادي






أولا النص :


الرسالة الثانية
الموسومة بـــ " مع شيخ الجنِّ "


غمرَ شمسُ الحياةِ حَسَدُ الأعادي ، فَتَبعْثَرتْ صَباحَاتُ فُؤادي ، أحْلامِي جرةٌ تكسرتْ بِحَجَرِ الهجرِ ، قَلبِي تَهَشَّمَ بِسِهامِ نَظرَتِكِ ، فَنَثرْتُهُ لآلئَ عَلَى دُرُوبِ الانتظارِ ، أنصَتتْ رُوحِي لِصَوتِكِ فَذَابَ كيانِي فِي بوتقةِ الهيامِ ، وامتزجت رُوحِي فِي خيوطِ أنوثتكِ المَائِسةِ ، جَمَالُكِ زَاحمَ الشمسَ فأرقَدَها خِدرِها ، والبدرُ خَجلاً رافقَ سريرَه ، علوتِ مكانَها فزادَتِ السَّماءُ بَهاءً ، والأرضُ ضياءً ، لكنَّ ظَلاماً يُطوقني ، وجنونَاً يُبصرني عَوَالِمَ الهيامِ ، وهَمسَ خَيَالٍ يُسامرني ، كُنتُ أسْتَحمُ بشعاعٍ من الشمسِ ... ؛ أأُحرَمُ من بَراءةِ عينيكِ !
دَقَاتُ السَّاعَةِ أَحْلامٌ ، رَقصاتُ العقربِ آمَالٌ ، تذوبُ وتثملُ أَنْغَامَاً لِلسَّهرِ ، الزَّهُورُ بِالنَّدَى تَسْتَحمُ ، وَتَتَمسحُ بِنُورِ الصُّبْحِ ، ثم تلبسُ إكليلَ العِطرِ ، وتَحلَمُ بِثَغرٍ يُقبِلُها – وَنَحلةٍ تتمرغُ بِسَمَاواتِ أَريجِهَا - تَرقِبُ مَن يَقطفُها هَديةً لِقرَّة عينِهِ ، وأزاهيرُ نَافِذَتِي شَاخَتْ ، وَابْيَضَ سَاقُهَا .
الحَبيبةُ فِي عَرائشَ بَابِلَ ، تُرَاقِصُ حَبَّاتِ المَاءِ بِخصلاتِ شَعْرِهَا ، تستنشقُ نَدَى العبيرِ ، ثُم تنفثه قُلُوبَاً فِي نَسَائمَ وردية ، وَتُدَاعِبُ بِأَنَامِلِهَا النَّسيمَ فَتجعلُه غَمَائِمَ سِحرٍ وترسلُه أَنّى شَاءَ الهَوى ، يُسَامرُهَا سَاحِرٌ مِن سَلالةِ نمرود ، لَاهيةٌ وَشَمسُ العُربِ تَغْرِبُ فِي شَعرِها ، تَمرَحُ جَذلى ، وَقَلبِي تَقوسَ ظَهرُه ، يَتكئُ عَلَى أحْلَامٍ مُصفرةٍ ، ويتعثرُ بِأقدَامِ أمانٍ ثَكلَى ، وَتُطفأُ بَسمتَهُ دَمعَةٌ ثَقيلَةٌ أَيْتَمَهَا الدَّهرُ .

أخذتني أُمِّي إلى شَيخِ أطباءِ الجنِّ ، رآني ... فَرَاحَ يُتَمتمُ بِعَجلةٍ مُستعيذاً مِن آلامي ، أخرجَ كومةَ عِظامٍ مِن قَانِصةِ الخفاش المُعَلقة بِذَيلِ عَقْرَبٍ فِي سَقفِ الكُوخِ ، وأخذَ سلسلةَ كَأَنَّها هَيكَلُ أَفعى ، وَبَدأتْ رُوحُه تَمتزجُ مَع أنفاسِ تَعويذاتِه ، لِيَستَحضرَ أَرْواحَ بَابِلَ وسُومر ، ثُم أخرَجَ صُحفَاً دخانية ، مِن تَحتِ سَريرِه ، كُتِبَ عليها بِخطوطٍ ملتويةٍ متشابكةٍ ، كَلامٌ لَا يفهمُه البشر ....
أَصطكت أسنانُهُ من حكاياتي ، ثم رمقَ السماءَ بلحظِه ، فَحدقَ إلى مغيبِ النورِ ، سكنتْ أصابِعُه المائة التي تداعبُ المسبحةَ العظمية ، والفحيحُ من عينيه بَثَّ اليَأسَ في أرجاء ما نأمُلُ ، ذيله خطَّ على التُرابِ خَرائِطَ جنونيةً ، سَقَطَتْ من يدِهِ ، هدأتْ حجرتُه الريشيةُ وكأنَّها من صلدِ الحجرِ ، رعبٌ داهمَ مدينته ، فتجمهرت حولنا أَشباحٌ وَظلالٌ ، عيناهُ الطويلتانِ سُمَّرتا ، وَغَمرَهُمَا الشحوبُ .
ذعرٌ أصابَ أُمي وأرجفَ فُؤادَهَا ، وروحِي كادَتْ تُزهقُ ...

ناديناه ... ثم هممْنَا بالرحيلِ هروباً بأنفسنا ، بغتةً حَضَرَ معاوناه ، وهما يحملانِ قارورةً لا لون لها ، داخلها سائلٌ أُرجواني ، وفيه يعومُ إخطبوط شفاف ، رجُّوها ، وَأَلقَوا داخلَها عظماً لينا أخضَرَ الرأسِ ، تَلَقفَهُ الإخطبوطُ ثُم تحولَ إلى فُقَاعَاتٍ خضراء ، فغسلُوا وجهَه ، وخاتماً يضعُهُ في إصبعِ قَدمِه ، وبعدَ اللتيا والتي أفاقَ ، وقد سُحِرَ شيخُ الجنِّ .

يا عمُ أنبئني ...
قالَ : لا تسلْ ، حُوريةٌ .. مجدولةٌ .. جذلى .. تتغنى بها الطفولةُ عُشقاً و شَباباً ، منها الشمسُ تختبئ خجلاً ، ومن ثغرِها يتناثرُ اليَاسَمين ، يتقاطرُ نُورُ البَدرِ لِيَرسمَ سُلمَاً لِعَرْشِهَا ، تَطْرِبُ الدُّنيا إنْ تَمايَلتْ ، ذُخرِتْ ميزاناً للجمالِ ؛ لستَ وحيداً طَالِبها ، أُمي صفْ لنا دواءً علَّهُ ينالها ...
هيهاتَ لو وُجِدَ لداويتُ نفسي ؛ لكنَّه نظرَ للشَّمسِ هامساً " رفقاً بِعَاشقِكم يَا من تحبونه " ، بَعدَها عَانقني بَاكياً و يُهمهمُ : " صبراً يا فتى فقد يجمعُ اللهُ المحبينِ ، بعد كُلِّ الظَّنِّ أَن لا تلاقيا "

منتظر السوادي 29 / 1 / 2011م .
 
 
ثانيا : القراءة :
الرسالة الثانية الموسومة بــ
 
" مع شيخ الجن " :
 
للكاتب / منتظر السوّادي


الرسالة الأدبية هي مخاطبة الغائب بلسان القلم ..وهي من أعذب الفنون الأدبية لما تحمله من معنى جميل .. " الرسالة "؛ فهي تربط بين أشخاص تبعد بهم الأقطار ويجمعهم الحب والمودة .. . إلا أنها من الفنون التي بدأت في التراجع بسبب تطور العصر وبداية اختفاء الرسائل بمعناها المعروف .. ولكنها تبقى كفن أدبي ذي طابع مميز.

والرسالة التي بين أيدينا الآن على ما تحمله من المعنى الطبيعي للرسالة كما أسلفت فقد كان لأسلوب الكاتب فيها ما يضيف معان أخرى للرسالة من سرد وخيال وحسن تصوير وهذا سيأتي في التحليل التالي ..

العنوان:


الرسالة الثانية الموسومة " مع شيخ الجن ".. يلاحظ المتلقي عند تعرضه لعتبة النص " العنوان " أنه على مقربة من الدخول إلى عالم غرائبي من خلال " شيخ الجن " فيلج المتلقي عالم الجن وليس ذلك فحسب وإنما يؤخذ في معية شيخ الجن ، فينجذب المتلقي منذ البداية كي يتعرف على هذا العالم الغريب الذي هو وشك الدخول فيه .

المرسل والمرسل إليه :

كما يتضح للمتلقي أن المرسل هو الراوي أو البطل لهذة الرسالة وهو يتكلم عن نفسه بلسانه "... فَتَبعْثَرتْ صَباحَاتُ فُؤادي ، أحْلامِي جرةٌ تكسرتْ بِحَجَرِ الهجرِ ، قَلبِي تَهَشَّمَ بِسِهامِ نَظرَتِكِ".. أما المرسل إليه فكما يظهر في مطلع الرسالة " أنصَتتْ رُوحِي لِصَوتِكِ فَذَابَ كيانِي فِي بوتقةِ الهيامِ ، وامتزجت رُوحِي فِي خيوطِ أنوثتكِ المَائِسةِ " فهنا يظهر المرسل إليه وهي المحبوبة التي يكلمها الراوي فيصف لها حاله في حبها وكيف فعل به الوجد والانتظار .. أما المغزى من الرسالة فكما سيتضح لاحقا من خلال تحليل الرسالة وتقسيمها إلى مقاطع .. أنه يصف حالة حبه لمحبوبته فقد يكون ذلك استعطافا لها " رفقاً بِعَاشقِكم يَا من تحبونه " أو فقط مجرد وصف حاله إليها وكيف أنه قد يئس من العلاج عند البشر فتحامل على نفسه وحملته أمه كما الطفل العليل إلى شيخ الجن يطببه "أخذتني أُمِّي إلى شَيخِ أطباءِ الجنِّ ، رآني ... فَرَاحَ يُتَمتمُ بِعَجلةٍ مُستعيذاً مِن آلامي"

المضمون :

تنقسم هذه الرسالة إلى قسمين رئيسين ( المقدمة – الفحوى )

** المقدمة :

يصف الراوي حالته النفسية على أثر انتظار محبوبته التي طال غيابها ويرد ذلك لحسد الأعادي في صور غاية في الإبداع كما سيتضح لاحقا ، فها هو فؤاده مبعثر وأحلامه تكسرت وقلبه تهشم قد تعلقت روحه بأصداء صوتها الناعم وذاب كيانه في أنوثتها المائسة ويأخذ يعلل ما أصابه فهذه المحبوبة طاغية الجمال قد غطى جمالها على الشمس والقمر وحازت ضياءهما جَمَالُكِ زَاحمَ الشمسَ فأرقَدَها خِدرِها ، والبدرُ خَجلاً رافقَ سريرَه ، علوتِ مكانَها فزادَتِ السَّماءُ بَهاءً ، والأرضُ ضياءً ، لكنَّ ظَلاماً يُطوقني"فلما غابت عنه اسودت الدنيا في عينيه وصار هائما على وجهه أأُحرَمُ من بَراءةِ عينيكِ

ويبدأ الراوي يقارن بين حاله وحال ما حوله في شكل ثنائية ضدية ( الوحدة والحزن من جهة البطل - الفرح والاجتماع من جهة الطبيعة ) : دَقَاتُ السَّاعَةِ أَحْلامٌ ، رَقصاتُ العقربِ آمَالٌ ، تذوبُ وتثملُ أَنْغَامَاً لِلسَّهرِ " فهذا هو حاله الذي يسيطر عليه الترقب لظهور محبوبته التي طال غيابها بينما الطبيعة حوله ، "الزَّهُورُ بِالنَّدَى تَسْتَحمُ ، وَتَتَمسحُ بِنُورِ الصُّبْحِ ، ثم تلبسُ إكليلَ العِطرِ ، وتَحلَمُ بِثَغرٍ يُقبِلُها – وَنَحلةٍ تتمرغُ بِسَمَاواتِ أَريجِهَا - تَرقِبُ مَن يَقطفُها هَديةً لِقرَّة عينِهِ " أما طبيعته وأزهاره هي قد هرمت حتى ماتت على نافذة انتظاره ،" وأزاهيرُ نَافِذَتِي شَاخَتْ ، وَابْيَضَ سَاقُهَا"

وبينما هو على هذه الحال إلا أن محبوبته على العكس منه تماما " الحَبيبةُ فِي عَرائشَ بَابِلَ ، تُرَاقِصُ حَبَّاتِ المَاءِ بِخصلاتِ شَعْرِهَا ، تستنشقُ نَدَى العبيرِ ، ثُم تنفثه قُلُوبَاً فِي نَسَائمَ وردية ، وَتُدَاعِبُ بِأَنَامِلِهَا النَّسيمَ فَتجعلُه غَمَائِمَ سِحرٍ وترسلُه أَنّى شَاءَ الهَوى... " فلا تعبأ بحاله وما صار إليه مآله وَقَلبِي تَقوسَ ظَهرُه ، يَتكئُ عَلَى أحْلَامٍ مُصفرةٍ ، ويتعثرُ بِأقدَامِ أمانٍ ثَكلَى ، وَتُطفأُ بَسمتَهُ دَمعَةٌ ثَقيلَةٌ أَيْتَمَهَا الدَّهرُ"

** الفحوى:

بعدما وصف حالته النفسية وكيف أصابه اليأس من الحياة رغم شبابه وانطفأت جذوة الأمل والأحلام .. حارت في حاله أمه فاخذته إلى شيخ أطباء الجن بعد أن يأس من العلاج عند البشر وهذا ما يستشفه المتلقي من العالم الذي اضطر البطل الدخول إليه .. أخرجَ كومةَ عِظامٍ مِن قَانِصةِ الخفاش المُعَلقة بِذَيلِ عَقْرَبٍ فِي سَقفِ الكُوخِ ، وأخذَ سلسلةَ كَأَنَّها هَيكَلُ أَفعى ، وَبَدأتْ رُوحُه تَمتزجُ مَع أنفاسِ تَعويذاتِه ، لِيَستَحضرَ أَرْواحَ بَابِلَ وسُومر ، ثُم أخرَجَ صُحفَاً دخانية ، مِن تَحتِ سَريرِه ، كُتِبَ عليها بِخطوطٍ ملتويةٍ متشابكةٍ ، كَلامٌ لَا يفهمُه البشر" فهو عالم خليطه الغرابة والرعب به حيوانات ميتة و
أخرى سامة وثالثة مخيفة الطلعة وصحف من دخان بها كلام ملتو مطلسم لا يفهمه البشر ثم ما لبث أن شاركه هذا الجني على منظره وجوه المخيف آلامه فازداد الأمر سوءا " فَحدقَ إلى مغيبِ النورِ ، سكنتْ أصابِعُه المائة التي تداعبُ المسبحةَ العظمية ، والفحيحُ من عينيه بَثَّ اليَأسَ في أرجاء ما نأمُلُ ، ذيله خطَّ على التُرابِ خَرائِطَ جنونيةً ، سَقَطَتْ من يدِهِ .. رعبٌ داهمَ مدينته ، فتجمهرت حولنا أَشباحٌ وَظلالٌ ، عيناهُ الطويلتانِ سُمَّرتا ، وَغَمرَهُمَا الشحوبُ ."

فهمّ البطل وأمه بالهرب .. لكنه سأل شيخ الجن في النهاية عن حالته فأخذ يشخص له العلة قالَ : لا تسلْ ، حُوريةٌ .. مجدولةٌ .. جذلى .. تتغنى بها الطفولةُ عُشقاً و شَباباً ، منها الشمسُ تختبئ خجلاً ، ومن ثغرِها يتناثرُ اليَاسَمين" اما عن الدواء "هيهاتَ لو وُجِدَ لداويتُ نفسي"

والمفارقة الكبيرة أن شيخ الجن هذا المفترض منه العلاج انه هوالآخر واقع تحت تأثير سحر هذه المحبوبة فعانق البطل باكيا ! .. صبراً يا فتى فقد يجمعُ اللهُ المحبينِ ، بعد كُلِّ الظَّنِّ أَن لا تلاقيا
وهذا يشبه قول الشاعر ابن الدمينة "وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا"
لتكون الخاتمة جزلة تاركة في المتلقي أثرا نفسيا كما البطل وهذا يحسب للكاتب


اللغة :

وهي أهم ما يميز الرسالة أولا اللغة ملائمة جدا للجو العام .. الوحدة والحزن واليأس والسقم
..ويظهر في مطلع الرسالة أن الأفكار متوالدة والكلمات متتابعة والمقاطع قصيرة تسلم بعضها .. ولا يوجد كلمات مكررة الألفاظ سهلة جزلة جدا بليغة في مواضع كثيرة "غمرَ شمسُ الحياةِ حَسَدَ الأعادي ، فَتَبعْثَرتْ صَباحَاتُ فُؤادي ، أحْلامِي جرةٌ تكسرتْ بِحَجَرِ الهجرِ ، قَلبِي تَهَشَّمَ بِسِهامِ نَظرَتِكِ ، فَنَثرْتُهُ لآلئَ عَلَى دُرُوبِ الانتظارِ ، أنصَتتْ رُوحِي لِصَوتِكِ فَذَابَ كيانِي فِي بوتقةِ الهيامِ ، وامتزجت رُوحِي فِي خيوطِ أنوثتكِ المَائِسةِ "

هناك استخدام للسجع غير متكلف في مواطن قليلة .. "علوتِ مكانَها فزادَتِ السَّماءُ بَهاءً ، والأرضُ ضياءً" ----" أخذتني أُمِّي إلى شَيخِ أطباءِ الجنِّ ، رآني ... فَرَاحَ يُتَمتمُ بِعَجلةٍ مُستعيذاً مِن آلامي"

الرسالة مليئة بالتصوير الراقي من استعارة وتشبيهات بليغة والتي تصف الحالة النفسية للبطل في الرسالة وما فعله به الانتظار من أفاعيل مثل : أحْلامِي جرةٌ تكسرتْ بِحَجَرِ الهجرِ --- قَلبِي تَهَشَّمَ بِسِهامِ نَظرَتِكِ

كما استخدم الكاتب الصور في شكل ثنائيات ضدية حيث يصف اولا الفرق بين حاله وحال الطبيعة حوله ليبين مدى غربته وأنه حتى الطبيعة لا تشاطره أحزانه كما هي العادة في الكثير من النصوص الزَّهُورُ بِالنَّدَى تَسْتَحمُ ، وَتَتَمسحُ بِنُورِ الصُّبْحِ ، ثم تلبسُ إكليلَ العِطرِ ، وتَحلَمُ بِثَغرٍ يُقبِلُها – وَنَحلةٍ تتمرغُ بِسَمَاواتِ أَريجِهَا - تَرقِبُ مَن يَقطفُها هَديةً لِقرَّة عينِهِ ----" وأزاهيرُ نَافِذَتِي شَاخَتْ ، وَابْيَضَ سَاقُهَا" .

كذلك الفرق بين حاله وحال محبوبته ليظهر مدى يأسه وعذاباته في مقابل عدم مبالاتها "..تُدَاعِبُ بِأَنَامِلِهَا النَّسيمَ فَتجعلُه غَمَائِمَ سِحرٍ وترسلُه أَنّى شَاءَ الهَوى ، يُسَامرُهَا سَاحِرٌ مِن سَلالةِ نمرود ، لَاهيةٌ وَشَمسُ العُربِ تَغْرِبُ فِي شَعرِها ، تَمرَحُ جَذلى ،---- وَقَلبِي تَقوسَ ظَهرُه ، يَتكئُ عَلَى أحْلَامٍ مُصفرةٍ ، ويتعثرُ بِأقدَامِ أمانٍ ثَكلَى ، وَتُطفأُ بَسمتَهُ دَمعَةٌ ثَقيلَةٌ أَيْتَمَهَا الدَّهرُ

يظهر الخيال والتصوير الدقيق رائعا في وصف عالم الجن الغرائبي " .. بغتةً حَضَرَ معاوناه ، وهما يحملانِ قارورةً لا لون لها ، داخلها سائلٌ أُرجواني ، وفيه يعومُ إخطبوط شفاف ، رجُّوها ، وَأَلقَوا داخلَها عظماً لينا أخضَرَ الرأسِ ، تَلَقفَهُ الإخطبوطُ ثُم تحولَ إلى فُقَاعَاتٍ خضراء ، فغسلُوا وجهَه ، وخاتماً يضعُهُ في إصبعِ قَدمِه ، وبعدَ اللتيا والتي أفاقَ ، وقد سُحِرَ شيخُ الجنِّ!"


كان رائعا تشكيلُ الكلمات حيث اكسب النص حلية جميلة .. وهذا يجعل المتلقي ينتبه إلى العلامات والإعراب .. وكان الكاتب موفقا في بعضها لكنه أخفق في كلمات بسيطة في الإعراب وبنية الكلمات وكذلك علامات الترقيم مما شكل بعض الإرباك للقارئ في التعرف على المتكلم من المخاطب ..
لك كل الشكر
أ / منتظر السوّادي
دام قلمك مبدعا

قراءة في ( الرسالة الثالثة ) للشاعر منتظر السوّادي






أولا : نص الرسالة الأدبية :



الرسالة الثالثة
 
امتَطَيتُ صَهوةَ الصَبرِ بعدَ أنْ صَمتَ البَدرُ , فتأهبتُ وَجمعْتُ من فاكِهةِ السَّمرِ , وقُوتَ السَّهرِ مَا يُطربُ الخلفاءَ , و يُؤنسُ الغرباءَ , ويُغري الأتقياءَ ؛َ وَدَّعْتُ عَتبةَ السَّأمِ , وَمَزَّقْتُ لباسَ القنُوطِ ؛ وعانقْتُ الآمالَ عناقَ الرَاحِلِينَ .

جاءَ الليلُ يجرُّ عرباتِه البائسةَ مُتمَلْمِلاً , قَد أَثقلَهُ إِكليلُ زَفافِ الأَرضِ , وقد أَخفى زِينَتَهُ , أزهَارُ البَساتينِ بانتظارِ ألحانِ مَوكِبِ العَرسِ .
وحيدٌ أنا في المحطةِ , هَمَسَ الظَّلامُ : الرحلةُ حَانَ خوضُها , وأُذْكيتْ شَرارتُها , فشمرتُ عن رأسٍ لم يَعْرفِ المِشطَ مُذْ أنْ هَرَبَ بَصيصُ الغَيثِ ,مُذْ أنْ جَفَّ نهرُ الفَرحِ, وَمُذ أنْ تَسَلقَ البؤسُ إِلى خيوطِ السَّرَابِ لينسُجَ ثَوبَاً لأَحلامِي , رَكَبَ كُلٌّ وحبيبتَه , الوُرودُ بِأيمانِهم , والمَرحُ والسُّرورُ يُداعِبُ أعطافَ جَدَائِلِهم , والعطرُ يغمرُ أفواهَهم وَكَلِماتِهم.

الغَزَلُ رَقَائِقُ غَمَامٍ يَنْسَابُ من قُلُوبِهم , همسٌ يتَبَادلونَه بِلُطْفٍ , فــــــأرقَ القَلبَ شوقٌ , وَأَضرَمَ في النَّفسِ حَشرجَةً , سَرَّحَتُ خيالي بعيداً , أرقِبُ سَماءَ الذّكرياتِ ونسيمَها , وَأيامَ كنَّا نلهو في الأَنهَارِ خَلفَ الأَحلامِ الطُّفُوليَّة , والأَسماكِ الورديةِ , وإذ بِحُورِيتينِ في مخيلتي لا تَعْرِفَانِ الأفولَ , ألهمتْني الأُولى حُبَّاً مُستعراً , فَرسمْتُ دَربي ألحَاناً وأنرتُه إنشَادَاً , والثانيةُ صَمتتْ دَلالاً وكبرياءً سِوى بَسمةِ أملٍ ارتسمتْ على شَفَتيها , فتشبثَتْ بِجدائلِها رُوحِي الغَرقى ؛ عِندَها صَعدتُ مغنياً - وأنا عَالِقٌ بِهَاتينِ النَّجمَتينِ - بعدما صَاحَ نَجمٌ : الليلُ سيقلُكم حيثُ أَحلامُكم .

قعدتُ قُربَ مِطفأةِ الأسى , ظَللتُ وَحيداً .. حتَّى قَارَبْنَا بَوابَةَ الفَجرِ , الرُّكابُ قد فارقَهم السّكوتُ , فضحكاتٌ تعلو ضحكاتٍ , والمرحُ يَلثمه المَركبُ كَالرَّاحِ , والبسماتُ تضيء الأرواحَ , وأنا آهاتٌ تردفُ حَسراتٍ , وَظُلُمَاتٌ تذرفُ لوعات , وأفكارٌ تأخذُ أكيالَاً منَ الأوقَاتِ , فَكأَنَّي طفلٌ أَيتَمَهُ الإصبَاحُ , وَرَاحَ يَبْحَثُ عَن أَشْلَاءِ الأفرَاحِ . أجلسْتُ جُنبي " ريَّا " لكنَّها تنظرُ من نافذةِ الليلِ إلى فَجرٍ لم يَزلْ فِي التَرائبِ , شَعْرُها يُغطي كلَّ ما تقعُ عليهِ عيناي , أحاورُها وأُناغيها لكنَّ الصمتَ رداؤها , عزفتُ لها قصيدةَ المَجنونِ وَلَمْ تَصخْ ؛ يَا " ريَّا " .. الصُبُّ متَّى موعدُه ؟ فَتأججَ صدُودُها , واحمرتْ خُدودُها , تَوقفَ اللَّيلُ فِي محطةٍ الإنتظارِ بينَ الغيومِ الزاهرةِ بأوتارِ النجومِ الغَانياتِ , وَنَشيدِ الزَّهرِ وَأَلوَانِ الفَّرَاشَاتِ , العَذارى والفتيةِ يتبادلونَ بسماتٍ ممتلِئةً بِالحُبِّ , وَكؤوسَاً منِ عذبِ الكلامِ , - وأنا في غَيهبٍ معتقٍ في الجُبِّ – و " ريَّا " كَأنَّ الصَّومَ قِلادَتُها , وَالصُّدودَ بُرجُهَا , وَلا تَزدادُ في عينيَّ إلا جَمَالاً وَفِي قَلْبِي إلا حُبَّاً , وَعشقُها يَملأُ أَركانَ الكَونِ , أُغَازِلُها فَيُورِدُ فِي شَفَتَيهَا الحَياءُ , عِندَ قَدميها يُرَفرِفُ فُؤادِي الأَسِيرُ مَذبُوحاً , فَتَضحَكُ نَاظرةً إلى ذَبيحِ عينيها .

آهٍ مَا أَقساكِ , أوصدت الأبواب على آمالي , وبصمتِكِ حطمتِ براءةََ انتظاري , فَتلاشتْ عِدَّتي , هَباءٌ سَفري , صَبرٌ جميلٌ , وَاللهُ المستعانُ على سِحْرِ العُيون .


منتظر السوادي 2/2 / 2011 
 
 
ثانيا القراءة النقدية :
الرسالة الثالثة

الرسالة الأدبية هي مخاطبة الغائب بلسان القلم ..وهي من اعذب الفنون الأدبية لما تحمله من معنى جميل .. الرسالة . فهي تربط بين اشخاص تبعد بهم الأقطار ويجمعهم الحب والمودة ..لذا تظهر نبرة الاشتياق عالية بها

والرسالة التي بين أيدينا الان على ما تحمله من المعنى الطبيعي للرسالة كما أسلفت فقد كان لاسلوب الكاتب فيها ما يضيف معان أخرى للرسالة تحسب للكاتب وهذا سيأتي في التحليل التالي ..

أولا العنوان

الرسالة الثالثة .. هذا معناه أنه كان هناك رسالة اولى وثانية وربما رابعة وخامسة ..لكن ما امامنا الان كقراء هو هذه الرسالة ولا ندري عن الأخريات شيئا .. لذا فكنت أتمنى من الكاتب لو أنه قد انتقى عنوانا آخر بدلا من هذا .. عنوانا يكون له اتصال بالنص .. لكننا هنا كقراء لا ندري ما العلاقة بين " الرسالة الثالثة " والنص بين ايدينا

المرسل والمرسل إليه :

كما يتضح لي كقارئة قبل أي شئ أن المرسل هو الراوي لهذة الرسالة .. اما المرسل إليه فكما يظهر في مطلع الرسالة " فتأهبتُ وَجمعْتُ من فاكِهةِ السَّمرِ , وقُوتَ السَّهرِ مَا يُطربُ الخلفاءَ , و يُؤنسُ الغرباءَ , ويُغري الأتقياءَ " فهنا يظهر المرسل إليه والمغزى من إرسال الرسالة

المكان والزمان :

المكان هو المحطة - الزمان هو الليل - الحالة النفسية للمرسل كما ذكرها في اكثر من موضع بالنص " وحيد على سفر "

المضمون :

المضمون ينسجم كثيرا مع الجو النفسي العام للرسالة وهوالليل والوحدة وترقب السفر لأنه بالمحطة ويظهر هذا في عدة كلمات مثل نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالليلُ يجرُّ عرباتِه البائسةَ مُتمَلْمِلاً )

ايضا جو الوحدة في أكثر من موضع من خلال المراوحة بين حال الآخرين وحاله (رَكَبَ كُلٌّ وحبيبتَه , الوُرودُ بِأيمانِهم , والمَرحُ والسُّرورُ يُداعِبُ أعطافَ جَدَائِلِهم) بينما هو (الغَزَلُ رَقَائِقُ غَمَامٍ يَنْسَابُ من قُلُوبِهم , همسٌ يتَبَادلونَه بِلُطْفٍ , فــــــأرقَ القَلبَ شوقٌ , وَأَضرَمَ في النَّفسِ حَشرجَةً )

أيضا : (الرُّكابُ قد فارقَهم السّكوتُ , فضحكاتٌ تعلو ضحكاتٍ , والمرحُ يَلثمه المَركبُ كَالرَّاحِ , والبسماتُ تضيء الأرواحَ) بينما هو(وأنا آهاتٌ تردفُ حَسراتٍ , وَظُلُمَاتٌ تذرفُ لوعات , وأفكارٌ تأخذُ أكيالَاً منَ الأوقَاتِ , فَكأَنَّي طفلٌ أَيتَمَهُ الإصبَاحُ , وَرَاحَ يَبْحَثُ عَن أَشْلَاءِ الأفرَاحِ

لذا فسلم امره بالنهاية انه لا يملك سوى الذكريات الماضية وخيالات واطياف (سَرَّحَتُ خيالي بعيداً , أرقِبُ سَماءَ الذّكرياتِ ونسيمَها ) وهنا تأخذ الرسالة منعطفا جديدا وهو أنها تنتقل إلى ما يشبه القصّ وتذكره لفتاة اسمها ( ريّا ) أحضرها من الماضي وأجلسها إلى جواره وأخذ يحادثها .. وهذا يعكس نبرة الوحدة والألم التي يعاني منها الراوي ..

وتنتهي الرسالة بكلامه إليها وكانها بالفعل امامه يعاتبها فيقول :"آهٍ مَا أَقساكِ , أوصدت الأبواب على آمالي , وبصمتِكِ حطمتِ براءةََ انتظاري , فَتلاشتْ عِدَّتي , هَباءٌ سَفري , صَبرٌ جميلٌ , وَاللهُ المستعانُ على سِحْرِ العُيون ."

اللغة :

وهي أهم ما يميز الرسالة أولا اللغة ملائمة جدا للجو العام .. الليل – الوحدة – السفر كما أسلفت
هناك عدم تكلف على ما ارى .. فالكلمات متتابعة والمقاطع قصيرة تسلم بعضها .. والجمل ليست طويلة ولا يوجد كلمات مكررة الألفاظ سهلة جزلة جدا بليغة في مواضع كثيرة (أُغَازِلُها فَيُورِدُ فِي شَفَتَيهَا الحَياءُ , عِندَ قَدميها يُرَفرِفُ فُؤادِي الأَسِيرُ مَذبُوحاً , فَتَضحَكُ نَاظرةً إلى ذَبيحِ عينيها)

هناك استخدام للسجع في مواطن عدة .. سجع غير متكلف (يَلثمه المَركبُ كَالرَّاحِ , والبسماتُ تضيء الأرواحَ , وأنا آهاتٌ تردفُ حَسراتٍ , وَظُلُمَاتٌ تذرفُ لوعات , وأفكارٌ تأخذُ أكيالَاً منَ الأوقَاتِ , فَكأَنَّي طفلٌ أَيتَمَهُ الإصبَاحُ , وَرَاحَ يَبْحَثُ عَن أَشْلَاءِ الأفرَاحِ"

هناك ايضا استخدام للمحسنات البدبعية كالجناس الناقص .. ( السهر – السمر )
مطلع الرسالة اشبه بالمقدمة جزل جدا بليغ

الرسالة مليئة بالصور البليغة خاصة الاستعارة والتشبيهات البليغة (وَدَّعْتُ عَتبةَ السَّأمِ , وَمَزَّقْتُ لباسَ القنُوطِ ؛ وعانقْتُ الآمالَ عناقَ الرَاحِلِينَ) والتصوير الراقي

كان بديعا ان أرى تشكيلا للكلمات .. وهذا جعلني كقارئة أنتبه إلى العلامات والاعراب .. وكان الكاتب موفقا فيها جدا ..لكنني كنت أتمنى فقط لو استطاع الكاتب الاهتمام بالتنسيق قليلا

لكن هذه الرسالة رقيقة جدا سلسة وبليغة وهنا على ما اعتقده يحسب للكاتب .. هذه اول رسالة أقرأها للكاتب وأعجبتني فعلا

لك كل الشكر أ / منتظر
دام قلمك مبدعا

السبت، 10 ديسمبر 2011

قراءة على نص ( زمن الصبايا والسّبايا والمرايا المغلوطة الملامح) للشاعر التونسي عمر البوزيدي

هو زمن الصبايا والسّبايا والمرايا المغلوطة الملامح...

*****


لا مكان للحب في زمن الثورات المبتورة...
لامكان ولازمان للعواطف البريئة.
تنطلق الرصاصة بين الشريان والشريان
كما تفعل الفتنة بين الأصحاب والخلاّن
فتخلّف دمارا لا تقدر البسيطة على استيعاب ما يخفون وما يعلنون
من حمل لقيط...
هو زمن الصبايا والسّبايا والمرايا المغلوطة الملامح...
ضاع الرعاع واخوة يوسف بين غلمان الملك وترانيم الكهنة والرهبان...
لا مكان للعواطف يا حبيبي لا مكان لمدارات العشق والهيام...
هو زمن العواصف الهوجاء الاّ من أمطار شتويّة الملامح...
شحيحة أخبارنا مكسورة أمصارنا معلولة ومبتورة مصادر أخبارنا...
هي الفتنة هوالعشق الممنوع والمخدوع والملدوغ من خلال أفاعي قابيل...
كلّنا هابيل يا حبيبي كلّنا منّاع للخير سمّاع للغثّ والسّمين أكّال للسّحت
مفتر أثيم...
كنّا قبل الثّورة فقراء من الاصداع بالأفكار والأنوار والثّروات...
أمّا بعدها فنحن نحتاج كلّ ما سلبنا آنفا مع نقص حادّ في الأمن والصّبر...
هذا زمان عار من كلّ الفضائل فلا صدق ولا قول ولا اخلاص ولا عمل...
هو زمن الهرج والمرج والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق هو زمن ضيّع فيه الأذان
فصرنا أحوج لأيّام آمان يا للنّي أمان
...
( عمر البوزيدي )
قراءتي النقدية:

قراءتي على نص أ / عمر البوزيدي
" هو زمن الصبايا والسبايا والمرايا المغلوطة الملامح"

أجل إنه "زمن الصبايا .. والسبايا .. والمرايا " وهكذا كنت أفضل العنوان اكثر وكذلك السطر الذي يتوسط النص حاملا نفس الكلمات .. كان سيكون أكثر تعبيرا في إيجازه ..والسبب في ذلك أن لا تذكر المرايا إلا وتذكر بالعلاقة المحتومة بين الحقيقة والزيف وبين ما هو صواب ومغلوط

إن المشهد الذي يجسده ذلك النص النثري الذي يشبه البوح إلى حد كبير هو مشهد الثورات العربية والتي لا يزال الكثيرون ويحق لهم ذلك .. يتوجسون مما سيؤول إليه الأمر وكيف ستتبدل الأحوال .. والسبب الرئيسي وراء ذلك هم الناس .. فالناس غير الناس والأخلاق غير الأخلاق وهذا ما يوضحه الكاتب في أكثر من موضع
:" لا مكان للعواطف يا حبيبي .. هو زمن العواصف الهوجاء شحيحة أخبارنا مكسورة أمصارنا معلولة ومبتورة مصادر أخبارنا " ويضع الكاتب يده على داء الناس بمهارة عند قوله :" هي الفتنة هوالعشق الممنوع والمخدوع والملدوغ من خلال أفاعي قابيل...كلّنا هابيل يا حبيبي .. كلّنا منّاع للخير سمّاع للغثّ والسّمين أكّال للسّحت ..مفتر أثيم..." ..

( العشق الممنوع – المخدوع – الملدوغ ) كلها وصوفات حقيقية لشعوب مغيبة عقولها يسهل خداعها وإطعامها السم في الدسم ...فكيف لأمثال هؤلاء نقل الحال إلى ما هو أفضل وهذه الأدواء العضال تفت فيهم ... وهم لا يشعرون
والذي يلخص فيه الأدواء أيضا قوله :
"هذا زمان عار من كلّ الفضائل فلا صدق ولا قول ولا اخلاص ولا عمل...هو زمن الهرج والمرج والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق"

وهنا تتجلى علاقة العنوان بالنص :
فقد ذكر الكاتب في العنوان انه زمن الصبايا .. فأين الرجال لهذه الأمة ؟! .. والسبايا.. فأين الحرائر اللائي ينجبن أحرار النفس الملجمين شهواتهم الدنيوية .. والمرايا إذا ما ادرجت في نص فإنها دائما ما تحمل العلاقة بين الحقيقة والباطل .. بين الفكرة الحقيقية والفكرة المغلوطة .. وهل كل ما تعكسه المرايا يكون صحيحا دائما أم أن هناك عوامل أخرى تتدخل وتؤثر في المشهد النهائي .. فكيف الاهتداء في النهاية للحقيقة المجردة .. ويبدو ان هذا صعب جدا فالاخبار شحيحة مكسورة – الأمصار معلولة – مصادر الخبار مبتورة


أعجبني في النص .. أولا :الحس العالي جدا للكاتب والذي يصور القلق الشديد على الوضع الحالي لأوطاننا ومجتمعاتنا .وما يعصف بها من فتن

ثانيا : وجود عدد من الصور الجميلة التي تجسد حال الفتنة الواقع فيها الناس :
"تنطلق الرصاصة بين الشريان والشريانكما تفعل الفتنة بين الأصحاب والخلاّن فتخلّف دمارا لا تقدر البسيطة على استيعاب ما يخفون وما يعلنونمن حمل لقيط..."
ثالثا جزالة العبارة في أكثرمن موضع كما أسلفت

رابعا الميل إلى اللفظ القرآني في أكثر من موضع مثل :" مناع للخير – أكال للسحت – اثيم " وأيضا بعض الفاظ النبي صلى الله عليه وسلم الهرج – المرج – والفاظ كان يستخدمها في دعائه
" اللهم إني اعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق .."

لكن كان هناك تكرار لبعض الكلمات .. ولا يعذر ان يسمح بذلك لكونه بوحا وإنما التكرار لبعض الكلمات في نفس السطر قد يعطي شيئا من الرتابة مثل " مبتورة – أخبارنا - زمن – زمان "

كما كان لابد من العناية بعلامات الترقيم في عدة مواضع لأنها تيسر القراءة كثيرا وتعطي للنص شكلا أفضل

شكرا لك أستاذنا المبدع عمر البوزيدي

الجمعة، 9 ديسمبر 2011

قراءتي على قصة ( صراخ الأسمنت ) لكاتبتها أ / حنان المنذري









أولا : النص 

( صراخ الأسمنت ) 
حنان المنذري


صراخ الأسمنت
من أجل موعد غائم سيحين بعد برهة, جلست أمام مرآة التسريحة لترسم على صفحة وجهها «مكياجًا» متقنًا سيحيلها إلى امرأة مختلفة.. امرأة أجمل وأكثر أنوثة.. وأهم من ذلك, امرأة لا تشبهها! ... 

قبلًا, كانت تكتفي بوضع بعض الرتوش البسيطة من علبة المساحيق لتبرز بها معالم جمالها المتواضع, غير أنه في هذه المرة, كان ثمة ما يدعو لأن تُزلف تفاصيلها بألوان صارخة, تطمس وشاية عينيها العسليتين بعدستين لآصقتين عميقتي الزرقة, وشفتيها البندقيتين بأحمر شفاه لامع.
الساعة التي علت التسريحة المستندة إلى الحائط تنذرها بأن ما تبقى من وقت لديها لا يكفي لتنجز لعبة الألوان بالدقة التي تريد, وهي على تلك الحالة من البعثرة والتشظي, تزداد اضطرابًا حين تخونها انقباضات قلبها فتعجزها عن الاختيار المتقن للأدوات الموضوعة بلا ترتيب على الطاولة أمامها!.
 
في قرارة عمقها المسكوبِ بالحنين, تمنّت لو أن كان بمقدورها أن تستعير وجه جارتها البعيدة, وجه زميلة يمّمت شطر الغياب, وجه امرأة قابلتها في الشارع صدفة!... أي وجهٍ جميل لا يعنيها ولا يشبه وجهها, وجه مؤقت تستطيع أن تمحوه بورقة محارم في حال عودتها خائبة إلى شُقتها, وقبل مواجهتها لمرآتها الصقيلة في حجرتها, وقبل أن تلقي بها الحظوظ العاثرة في صدفة رجل التقته فعافها أو عافته في ذلك المكتب!
 
بعد أن انتهت, نظرت بتأمل إلى تفاصيلها في المرآة, ها قد أضحى لها وجه مختلفاً قدر الإمكان, سعيد قدر الإمكان, غامض قدر الإمكان... ابتسمت بلا معنى, وزعت ناظريها في جنبات الحجرة الغارقة في الصمت.. أطرقت, فكرت في الوحدة التي تناوشتها طويلًا, هزت رأسها في محاولة يائسة لطرد الأفكار المُتعبة .. مشت باتجاه الباب.. أمام الباب توقفت قليلًا .. فكرت أن تتراجع, قالت لنفسها أنها لن تحتاج سوى للإستدارة عائدةً بضع خطواتٍ إلى الخلف, ترددت, كادت أن تقفل أدراجها خوفًا من ندم قد يلوي قلبها لاحقًا, ألا أن أتصالاً هاتفياً باغتها بصوتٍ أنثوي ناعم, دفعها لأن تمضي إلى الأمام!.
 
في الخارج .. شعرت بالموجودات تخزها بما فيها النسمات الباردة التي لآمست وجهها بلطف, كل شيء كان يصفعها حتى الجمادات وخادمتها التي صادفتها قبالة الباب عائدة بسلة مهملات فارغة وابتسمت لها بودٍّ تعودته.
في السيارة .. حين جلست خلف المقود وبعدما اضاءت المصباح الصغير في سقفها, وحركت المرآة الأمامية لتعكس وجهها, تفاجأت بتفاصيل جديدة تبرز كشرخ يفضح الأسى الذي حرصت على ردمه تحت ثقلٍ من الألوان الباهضة, ها هي التجاعيد الرفيعة تتضح وتتضخم في المرآة. وها هي العدسات ذات اللون الشاهق تُخفق في إخفاء رذاذ الدمع المحتقن بمحجر عينيها!.
بحركة مُرتبكة عَدّلت من وضع المرآة لتعكس الشارع المتأنق بأضواء النيون, نظرت إلى الساعة أمامها فوجدتها تقترب من السابعة والنصف مساءً, الموعد المحدد للقائهما... أدارت المفتاح وانطلقت.
 
بدا الشارع مزدحمًا على غير عادته بالسيارات والراجلين المتنقلين بين ضفةٍ وأخرى تحت سماءٍ ملبدة بالغيم... وقتٌ أضافيٌ لم تحسب له حسابًا يضيع في زحمة الانتظار القلق.. حملقت في الوجوة العابرة بشرود, شيء من الحزن وكثيرًا من الألم تداعى على قلبها .. استحضرت معنى الشارع في ذاتها .. وكل تلك اللعنات التي صبتها عليه في أوقاتٍ كثيرةٍ سلفت .. حين ظل بخواءه المعهود يعكس بفجاجة خواء مدينتها المترفة, خواءها هي.. خواء العالم الذي أختنق حولها بالبرد والبرود.
 
في لحظة وصولها, غام كل شئٍ بداخلها وهوى في قعرٍ سحيق, لعنت نفسها وعاتبتها على ذل الحُلُم! ترددت .. كادت أن تتراجع حين رنت إلى العمارة شاهقة الارتفاع, غير أن دفقاً من بقايا لأمنية قصية, دفعها لأن تمد قدمها إلى الخارج, لتخطو أولى خطواتها باتجاه المبنى, بعدما خبأت عينيها وراء نظارة سوداء كبيرة وأسدلت فوق رأسها شالاً أسوداً خفيفاً.
دلفت إلى الداخل وانعطفت باتجاه المصعد, وقبل أن تضغط بإصبعها على زره تعالى رنين هاتفها بأغنية شجية طرقت قلبها بعنف.
على الجانب الآخر من السماعة يأتي الصوت مترقباً:
- أين أنت ؟, لم تأخرتِ, الرجل لديه ارتباطات كثيرة وهو مستعجل؟
ردت بتلعثم:
- أنا هنا في العمارة, بالضبط أمام باب المصعد.. ثوان وأحضر.
رد الصوت:
- حسناً عزيزتي..في انتظارك!‍‍
أعادت هاتفها إلى حقيبتها, انفتح باب المصعد أمامها فانسلت قطرة عرق من أعلى جبينها خادشةً تناسق البودرة الموزعة بعناية على قسمات الوجه.
دلفت إلى الداخل لتجابهها مرآة تعكس جسدها النحيل بضآلته الكاملة, عدلت سريعًا من ترتيب هندامها وأعادت للبودرة تناسقها بمسحة سريعة من يدها, ريثما يتوقف بها المصعد في الطابق الرابع.
مشت بحذر نحو الباب الذي ألصقت عليه لائحة تعريفية معنونة ب «المكتب الحديث للاستشارات الأسرية», قبل أن تضع يدها على مقبض الباب تلفتت يمنة ويسرة لتتأكد من أنه ما من أحد قد لمحها وهي تخرج من المصعد وتتجه إلى المكتب.
وضعت يدها المعروقة حول مقبض الباب بعد أن خلعت نظارتها وأعادتها إلى الحقيبة, دلفت بوجل إلى الداخل, رفعت رأسها في حذر حين تناها إلى سمعها صوت المديرة مرحبًا وهي تشير إليها بالتقدم أكثر إلى حيث وقف رجل لا تعرفه يحدجها بفضول ويقرأ تفاصيلها بتمعن!.
حين جلست قبالته في مقعد جلدي وثير أختلست نظرة سريعة إليه, هالها أختلاف ملامحه عن الصورة التي أطلعتها عليها مديرة المكتب في وقتٍ سابق, بدا أسمر ذا تقاطيع جامدة وعينين نافذتين بجسد بدين ومترهل, بادرت المديرة بفتح باب الحوار الذي تقرر سلفاً بينهما مخففةً بذلك من وطئة الموقف على نفسها:
- مرحبًا بكما.. حسنًا, لندخل إلى الموضوع مباشرة.. كما أخبرتكما سلفاَ, إن خبراءنا قد اجمعوا بعد بحثهم المطول عبر موقعنا على شبكة الإنترنت على أنكما الثنائي الأنسب لتكوين أسرة متماسكة الدعائم؛ فبينكما قواسم مشتركة, كتوحد الطباع وتماثل الخلق وتقارب الميول والهوايات ..... صمتت قليلًا لتتأمل وقع حديثها عليهما ثم أردفت:
- ولعلكما حين تبدءان بتجاذب أطراف الحديث ستتآلفان بناءً على هذا التوافق فتقرران الارتباط, وقد يحدث العكس لا سمح الله فتلغيان الفكرة!!
نظرت إلى ساعة معصمها سريعاً وأكملت مبتسمة:
- على أية حال, ها أنتما قد التقيتما بحمد الله أرجو أن تتحدثا في الأمور العامة في الوقت الحالي, ولا تنسيا الاتفاق المسبق فيما بيننا, لا أسماء , لا عناوين, لا أرقام هواتف!.
صمتت المديرة وتشاغلت بتقليب أوراق ملف موضوع على الطاولة أمامها, في حين ازداد تبعثرها وتسارعت دقات قلبها الوجل, استشعر مدى قلقها فبادرها بالقول وهو يمعن النظر في عينيها:
- عمرك تسعةُ وثلاثون, أليس كذلك؟
عقدت حاجبيها بدهشة, نظرت إلى المديرة في استعطاف, اسعفتها المديرة بالرد:
- أطلعتك من قبل على بياناتها الشخصية!
رفع سبابته نحوها وتابع مردفًا:
- أحقاً لم يسبق لك الزواج نهائيًا من قبل؟!
- ردت المديرة بانفعال:
- ذلك أيضاً مدون ضمن ورقة بياناتها الشخصية!
أكمل بإصرار:
- عفوًا.. حدثيني عن نفسك, طبيعة عملك, انتماءك القبلي, وضعك المادي و .. كل شيء!!.
 

شعرت بلسع أسئلته المباشرة والفجة, نظرت إلى عينيه الوالغتين في التهامها بقسوة, وزعت ناظريها في أرجاء المكان كأنما تكتشفه للمرة الأولى, برزت لها أخيلة لوجوه كثيرة رمقتها شزراً من وراء زجاج النافذةِ والستارةِ الحريرية وثقب الباب!, همهمت أصوات مبهمة ثم ضحكت عالياً في سخرية, برزت أصابع أفعوانية كمناقير لتنتزع لحم وجهها المتعرق, وهبّت جمادات المكان تُقرّعها:
- أنظري إلى أي مستوى قد أنحدرت؟!! الهذه الدرجة بلغت بك الحاجة لرجل؟!!
 

ارتجفت أوصالها, شعرت بأنها لم تعد تعي حقيقة حاجتها ولم أختارت أن تقصد هذا المكان!!, وجدت نفسها تنتفض كملدوغه من على كرسيّها لترمق المديرة والرجل في حدة مباغته جمدت عينيه الشرهتين على مرأى من غضبها, شهقت كمن صبت على رأسه مياه باردة, لم تفهم الأحاسيس التي باغتتها, لكن ثمة نظرة مختلفة وجارحة لذاك الرجل صعقت كرامتها بحدة, هرولت سريعاً خارج المكتب غير ملتفته لرجاءات المديرة التي تصاعدت مع اعتذارات الرجل, أسرعت تطوي الدرج وتقطعها بأنفاس لاهثة وعيون محتقنة بالدمع, كل شيء عاد ليخزها ويصفعها بقسوة, الجدران, وأشجار الزينة الموضوعة في الممرات المنقوشة والسُلّم و وجهها المخضب بالخزي والألم, تعثرت بذيل ثوبها الطويل, رفعت طرف الثوب بيد ومسحت بالأخرى الدمع الذي انزلق ليتخذ مسارات متفرقة على خدها, سال الكحل مع الدمع فغامت العدسات وبهت لونها, طوت عتبات الدرج كلص جرت الشرطة والناس في أعقابه, أخيرًا وصلت إلى الطابق الأرضي بأنفاس لآهثه لتفاجئ بالمصعد يفتح أمامها ويبرز منه الرجل نفسه, سقطت عيناها أولاً على كرشه وجمدت عند صدره, تسمرت قدماها, أقترب منها مبتسماً وبادرها بصوت فرح:

- حمداً لله الذي مكنني من اللحاق بك! أرجو المعذرة فلربما جرحتك قليلًا!!, لكنه التعارف الأول وليس بوسعي سوى النظر إليك في شك! فأنت كما أرى جميلة, وبرغم هذا فقد بقيت بلا زواج حتى بلغت هذا العمر‍!
نظر إليها بتمعن وأكمل:
- أصارحك بأن ذلك قد أثار في نفسي الدهشة ليس إلا, غير أني أعترف بأنك قد رقتِ لي من النظرة الأولى.
مسح على رأسه وأردف بود:
- سامحيني فقد كنت أنا الآخر مربكاً, أنا أيضاً كبرت في العمر ولم أتزوج بسبب مشاغلي الكثيرة وبودي الآن أن أستقر مع امرأة مناسبة.. ولهذا السبب فقد قصدت المكتب الذي تأكدت من جودة خدماته حين عرفني إليك!
أنفرجت شفتاه عن ضحكة مرحة كشفت تآكل نخر أسنانه, أشار إلى المصعد:
- هيا بنا نعد لنتعرف إلى بعضنا أكثر فالمديرة جد مستاءه!.
ازداد حنقها, نظرت إليه في حده, تمنت لو أن تبصق في وجهه ووجه المديرة... أمام رجولته, عادت إلى ذاتها, حاولت أن تتماسك, زمت شفتيها فخرجت الكلمات من حلقها مبحوحة:
- عذراً, أنا جئت إلى المكتب لأمر آخر, لا شك أن المديرة قد خلطت بين اسمي واسم امرأة أخرى جاءت تطلب خدمة الزواج تلك..
 

نظرت إلى عينيه لترى إن كان قد صدقها, وجدته يهز رأسه ويبتسم, خفضت رأسها وأخرجت من حقيبتها نظارتها السوداء ولبستها في حنق, مشت بخطوات مثقلة إلى الخارج حيث الغيم قد آذن بانهمار المطر, ناداها من خلفها فلم تجب, أدخلت يدها في الحقيبة المبللة متلمسةً مفتاح السيارة من بين علبة مساحيق التجميل ومحفظة البطاقات وأقلام الحبر وهاتفها النقال, فتحت الباب بهدوء مصطنع, جلست خلف المقود, رفعت نظرها قليلاً نحو العمارة, أدارت المفتاح في حين تعلقت عيناها بالرجل الذي مضى يتلمس في المواقف سيارته, استعادت في ذهنها البريق الكاسر في عينيه, إنزلقت دمعة سخينة من عينها, لفت المقود عائدةً أدراجها, في حين كان المطر يجلد الشارع المسفلت حولها بقسوة!



ثانيا : قراءتي النقدية 




الثنائيات الضدية
في قصة " صراخ الاسمنت "
للكاتبة أ / حنان المنذري

تتناول هذه القصة موضوعا شائكا ومؤلما ، مؤرقا وملحا في آن واحد .. متعدد النواحي والشعاب ليمتد فيكون أشبه بصراخ في وجه المجتمع . إنه يتكلم عن قضية التأخر في الزواج ( العنوسة ) وكيف يزج المجتمع بمن قدر لها ذلك إلى أن تغير الكثير من نفسها وتتنازل عن أشياء وتحمل نفسها ما لا تطيق وما اعتادت اضّجاره في الماضي من أجل البحث عن ... زوج !
فكيف يمكن لفتاة مرفهة تعيش عيشة مترفة ( جميلة ولديها خادمة وسيارة خاصة بها وترتدي أفخر الثياب ) ومع ذلك تظل تتردد على مكتب للزواج لتكون على موعد مع غريب لا تعرف عنه سوى صورة زائفة ومحض معلومات ، فتشعر بأنها كمن يتلصص أو يخشى من هجوم الشرطة عليه:

" قبل أن تضع يدها على مقبض الباب تلفتت يمنة ويسرة لتتأكد من أنه ما من أحد قد لمحها وهي تخرج من المصعد وتتجه إلى المكتب" .. ولا ترد الكاتبة على هذا السؤال لماذا تتأخر من لديها تلك المؤهلات عن الزواج .. ويفكر المتلقي لعله غلو المهور .. تعنت الآباء .. لعله .. أو لعله ... إذن فهي تطرح المشكلة فقط

لكن المميز بهذا النص أكثر من هذه الفكرة التي تم تناولها في الكثير من الأعمال وبطرق شتى هو جمال الأسلوب واستخدام الرموز الإيحائية في صورة ثنائيات ضدية تعكس الحالة النفسية للبطلة بمهارة فائقة .

ومما هو جدير بالذكر أن الكاتبة كانت موفقة جدا في استخدام وجهة نظر " الراوي العليم " فهذا الراوي يتعامل مع الشخصيات كما لو كانت شديدة الشفافية وكأن المكان حولها محاط بالكاميرات والميكروفونات ؛ فهو ذو وجود ملموس من خلال التعليقات والأحكام التي يطلقها ، ينطلق حرا بلا قيود فيشق صدور الشخصيات ويغوص بداخلها ، مثال ذلك :

" برزت لها أخيلة لوجوه كثيرة رمقتها شزراً من وراء زجاج النافذةِ والستارةِ الحريرية وثقب الباب!, همهمت أصوات مبهمة ثم ضحكت عالياً في سخرية, برزت أصابع أفعوانية كمناقير لتنتزع لحم وجهها المتعرق, وهبّت جمادات المكان تُقرّعها: - أنظري إلى أي مستوى قد أنحدرت؟!! الهذه الدرجة بلغت بك الحاجة لرجل؟!! "

فاستطاعت باقتدار أن توظف أسلوب الرواية ( وجهة النظر ) مع الرموز الإيحائية بالنص من أجل خدمة الفكرة الرئيسة بالنص وهذا ما سيتم تناوله في هذه القراءة...

تستخدم الكاتبة في قصتها عددا من الثنائيات الضدية من خلال عدد من الرموز الإيحائية :

** ( المرآة- " التسريحة / السيارة / المصعد " ) --- في مقابل ( النظارة السوداء والمكياج والشال الأسود )
** ( صعود المصعد )--- في مقابل ( هبوط الدرج )
** ( الشارع الأسفلتي الخاوي )--- في مقابل(الشارع الأسفلتي المبتل من المطر )



1- ** ( المرآة- "التسريحة / السيارة / المصعد" ) x ( النظارة السوداء والعدسات والمكياج والشال الأسود ) --- ( الظهور x الاختباء ) :


مشهد المرآة متكرر بصورة ملحوظة في هذا النص .. فمن المعروف كيف يتم دائما ربط المرآة بفكرة الزيف والحقيقة ، فكثير من النصوص تناولت فكرة المرآة أنها لا تعكس الحقيقة دائما وهناك مؤامرة بينها وبين الأضواء لتغيير الحقيقة ، ونصوص أخرى تناولت المرآة التي تعكس الداخل والخارج على السواء ، أما في هذا النص فقد استخدمت الكاتبة فكرة " المرآة الكاشفة " التي تعكس الصورة الخارجية متأثرة بالحالة الداخلية للإنسان وما كان هذا ليتأتى لولا استخدام رواية" الراوي العليم "

في المشهد الأول ، ها هي البطلة تحاول جاهدة أن تلعب ( بالمكياج ) والألوان والعدسات اللاصقة من أجل تغيير شكلها

"جلست أمام مرآة التسريحة لترسم على صفحة وجهها «مكياجًا» متقنًا سيحيلها إلى امرأة مختلفة.. امرأة أجمل وأكثر أنوثة.. وأهم من ذلك, امرأة لا تشبهها! ..."

وقد سمّت ( المكياج ) بلعبة الألوان وإنه من المعروف أن الألوان توضع لإظهار مفاتن الصورة وجمالياتها إلا ان الألوان هذه المرة كان لها دور مغاير وهو أن ترسم امرأة لا تشبهها ! .. إنها تحاول الهروب من صورتها الحقيقية أو تحاول إخفائها كي لا يعرفها أحد وكأنما تضع قناعا ملونا على وجهها !

وربما تكون قد نجحت في لعبة الألوان تلك مع مرآة التسريحة لكن كلما ازدادت البطلة اقترابا من الموقف " المقابلة " كلما اتضح مدى فشل هذه اللعبة فها هي من جديد أمام المرآة ولكن هذه المرة مرآة السيارة :

" وحركت المرآة الأمامية لتعكس وجهها, تفاجأت بتفاصيل جديدة تبرز كشرخ يفضح الأسى الذي حرصت على ردمه تحت ثقلٍ من الألوان الباهضة, ها هي التجاعيد الرفيعة تتضح وتتضخم في المرآة. وها هي العدسات ذات اللون الشاهق تُخفق في إخفاء رذاذ الدمع المحتقن بمحجر عينيها!."

فمرآة السيارة تخونها وتعكس دقائق وجهها التي تحاول كثيرا إخفاءها ولكنها كانت قد ركبت السيارة وفارقت ألوانها ؛ ففي محاولة جادة لإجادة لعبة التخفي هاهي البطلة تقوم بارتداء نظارة سوداء وإسدال شالا أسود خفيفا ، رغم أن الوقت كان ليلا :" كادت أن تتراجع ... غير أن دفقاً من بقايا لأمنية قصية, دفعها لأن تمد قدمها إلى الخارج .. بعدما خبأت عينيها وراء نظارة سوداء كبيرة وأسدلت فوق رأسها شالاً أسوداً خفيفاً."
ومن جديد تمثل أمام المرآة للمرة الأخيرة في محاولة للتأكد من اختفاء ( حقيقتها ) تماما وفي محاولة لإنجاح لعبة الألوان .. لكن مرآة المصعد كبيرة تعكس ليس منظر الوجه ولا حتى منظرا مقربا ( زووم) على الوجه فحسب وإنما تعكس الجسم بأكمله بجميع تفاصيله ليدفعها من جديد إلى إعادة الترتيب لشكلها الخارجي والتأكد من وجود القناع ويزيد الاضطراب إذ صارت قاب قوسين أو أدنى من المقابلة

"دلفت إلى الداخل لتجابهها مرآة تعكس جسدها النحيل بضآلته الكاملة, عدلت سريعًا من ترتيب هندامها وأعادت للبودرة تناسقها بمسحة سريعة من يدها, ريثما يتوقف بها المصعد في الطابق الرابع."

لكن رغم محاولات البطلة المستميتة من أجل إخفاء حقيقتها إلا أن لقائها المرتقب كان له من العمل الكثير في هدم قواعد هذه اللعبة من خلال النظرة الفاحصة الثاقبة إلى دواخلها من قبل الرجل المتقدم لزواجها من المكتب ، نظرة كانت أقوى من مجرد انعكاس صورة على مرآة ، وإنما كانت اختراقا صريحا للقناع " شعرت بلسع أسئلته المباشرة والفجة, نظرت إلى عينيه الوالغتين في التهامها بقسوة"
فكان هدم ذلك البناء الملون وتآكل الألوان وشعورها الذاتي بسقوط القناع الذي كان يحمي كرامتها فبتساقطه من وجهها كأنما قطع اللحم من وجهها تتساقط خزيا وخجلا من فعلها :

" رفعت طرف الثوب بيد ومسحت بالأخرى الدمع الذي انزلق ليتخذ مسارات متفرقة على خدها, سال الكحل مع الدمع فغامت العدسات وبهت لونها "


2- ** ( صعود المصعد ) x( هبوط الدرج ) --- ( الوصول إلى الغاية ) x ( الفشل في الوصول إلى الغاية ) :


المصعد ما هو إلا أداة من أجل الوصول إلى غاية ما ، وكان للاقتران بين الصعود والهبوط أثر كبير في عكس الفكرة المهيمنة على القصة وبيان الشعور النفسي في الحالتين والذي صورته طريقة الرواية باقتدار

فمثلا كانت حالة الصعود : " أعادت هاتفها إلى حقيبتها, انفتح باب المصعد أمامها فانسلت قطرة عرق من أعلى جبينها خادشةً تناسق البودرة الموزعة بعناية على قسمات الوجه."

إنه لا يزال الترقب والتوجس من تلك المقابلة والحرص على ذلك القناع الملون من السقوط خشية تساقط لحم وجهها على أثره لا مجرد انكشاف الغطاء عنه ، إنها الخشية على الكرامة من أن تخدش أو ينفذ إليها نافذ

أما عند هبوط الدرج بعد شعور البطلة بالامتهان من أسلوب المقابلة وما اكتشفته من زيف بين صورة الرجل وحقيقته مما أيقظ عندها هاجس ذلك الزيف الذي تحاول اصطناعه هي الأخرى .. فكان الشعور بالخزي والألم والتخبط الموجع الذي جعلها تأخذ الدرج بدلا من المصعد وكأن روحها تتكسر معها في كل درجة من درجات الدرج:

"هرولت سريعاً خارج المكتب ... أسرعت تطوي الدرج وتقطعها بأنفاس لاهثة وعيون محتقنة بالدمع, كل شيء عاد ليخزها ويصفعها بقسوة, الجدران ... وجهها المخضب بالخزي والألم .."


3- ** ( الشارع الأسفلتي الخاوي ) x(الشارع الأسفلتي المبتل من المطر ) --- ( اللامبالاة ) x ( الجَلْد ):

الشارع يحمل معان كثيرة في طياته وتأويلات عدة .. لكن في هذا النص بالتحديد ، يلاحظ المتلقي أنه ذكر مرتين قبل وبعد مقابلة البطلة للرجل

قبل المقابلة :
"استحضرت معنى الشارع في ذاتها .. وكل تلك اللعنات التي صبتها عليه في أوقاتٍ كثيرةٍ سلفت .. حين ظل بخواءه المعهود يعكس بفجاجة خواء مدينتها المترفة, خواءها هي.. خواء العالم الذي أختنق حولها بالبرد والبرود."

إنه ذلك المعنى لكل ما يتخلى عن أمثال هذه البطلة عندما يشعرها كم هي كمّا مهملا بلا داع في الحياة لأنها ( تأخرت في الزواج ) .. عندما يعاملها ببرود وكأنها أجرمت بعمل شيء رغم أن لا يد لها فيه إنه ذلك البرد والبرود الذي تعامل به أمثال تلك البطلة حتى يكاد يخنقها فلا يحتضنها ولا يتفهمها وإنما يزيد على غربتها غربة أخرى .. إنه ذلك المجتمع الذي يسلط ( أنواره النيون ) على وجهها بفجاجة يترقب تحركاتها وهمساتها ويحاسبها على غير أفعالها ، فهي لا مبالاة صارخة تكاد تقتل أمثال البطلة كمدا
بعد المقابلة :
" انزلقت دمعة سخينة من عينها, لفت المقود عائدةً أدراجها, في حين كان المطر يجلد الشارع المسفلت حولها بقسوة!"

بعدما حاولت التخلص من الزيف الذي زجّها إليه الشارع ( المجتمع ) وبعدما تلاشى قناع الألوان الذي كانت تخفي تحته كرامتها ، هاهو الآن يجلدها.. بقسوة شديدة بلا رحمة ، فيعاتبها بعد المقابلة بقسوة أكثر من قبل المقابلة ... فكان الخواء قبل المقابلة والجلد القاسي بعدها ! ، فيجلدها بوابل من الكلمات وأنواعا من السخرية والتعنيف فكأنه مطر متسلط عليها من الأعلى .


فلا شك أنها تصرخ بعد ذلك .. إنه " صراخ أسمنتي " وهنا تظهر الفجوة بين ( صراخ ) و ( أسمنت ) لدى المتلقي ، فكيف يكون صراخ الأسمنت ؟! ، إنه صامت صلد صراخ داخلي لا يستطيع الخروج لا يشعر به أحد شديد الكتمان

وفي الختام أرى أن هذا النص كان موفقا فكرة ولغة وأسلوبا ورؤية إلا أنه يمكن أن يكون أكثر إبداعا لو كان أكثر تكثيفا على ما أرى .. كما أن النص كان بحاجة إلى مراجعة إملائية وإعرابية قبل النشر لوجود أخطاء به



شكرا جزيلا لقلمك الراقي
أ / حنان المنذري

قراءتي على نص ( الكيد ) للشاعر منتظر السوّادي





قراءتي على قصة ( الكيد) لكاتبها : أ/ منتظر السوادي


الكيد
 غازلها صباح الأحد .. تزلزلتْ أعماقها , شيدت ناطحاتِ الأَملِ , على مويجاتٍ متحركة , جاءها ليلاً .. شرعت له أبوابَ كنوزها , بيسرٍ تناول إرثَ الأجداد قائلاً : أغربي ... فأنا لا أُحبُّ الخؤون


 ( منتظر السوّادي )


 

( الكيد ):

هذه القصة القصيرة جدا لا يتعامل معها بتقطيعها إلى أجزاء ومقاطع ذلك لأن أجزاءها متداخلة بشدة في صورة فعل ورد فعل ولذا يتعامل معها ككتلة واحدة.

هذه القصة ما هي إلا تناوب وسجال بين (هو) و(هي)
ذلك التداخل بين ال (هو)و ال(هي) في التأثيرات النفسية غير المبتورة يعكس مدى واقعية هذا الأمر فما هي إلا أفعال ومردودها النفساني فتتولد ردود الأفعال والتي على أساسها يتحدد كيف تترجم وكيف تفهم

المبنى : بأدوار( هو وهي ) :

هو: ( غازلها صباح الأحد ........ جاءها ليلا .. )
هي: ( تزلزلت أعماقها .. شيدت ناطحات الأمل .. على مويجات متحركة ...... شرعت له ابواب كنوزها )
الالتقاء بين هو وهي : ( بيسر تناول إرث الأجداد قائلا : "أغربي .. فانا لا أحب الخؤون" )

التفصيل:

(غازلها صباح الأحد)
هو من بدأ فغازلها صباح الأحد ....وهو أول يوم في العمل في الأسبوع
وفي صباحه يكون الرجل منشغلا فهذه المغازلة لم تكن حقيقية جدية بل كانت ضربا من تناول الفطور أو شرب الشاي في الصباح ...فكانت هي ضمن وجبته الصباحية!!


ثم بالانتقال للطرف الثاني يتضح عدم وجود التواصل بينهما.. فلم يكن هناك حب حقيقي وإنما كما يصور الكاتب في القصة كل في واديه يبني أفكاره ويؤول أفعال الآخر على أساسها

(تزلزلت أعماقها ..
شيدت ناطحات الأمل ..
على مويجات متحركة..)

هذه المرأة كالبحر له عمق وماء .. عمق ( يتزلزل) وماء ( تولدت منه مويجات متحركة)
إنها أعماق ضعيفة متزلزلة ترتج بقوة تتأثر بما حولها لاتحمل ثقلا عليها إلا ماء متحركا ... فكيف وإن كان العمق المهتز هو قعر البحر ذى المويجات متحركة صغيرة

ملحوظة : مويجات صغيرة
كنت أفضل لو كانت (موجات) بدلا من مويجات لتتوافق مع الأعماق المتزلزلة فتكون موجات قوية متحركة مائية لا يستقيم عليها شئ ولا تقلّ شيئا فيوحي ذلك أكثر بعدم الاستقرار .. (التصغير قد يستخدمه الكاتب لإظهار ضعف الموجات وصغرها وحقارتها ولكن بالنظر إلى صورة البحر كلية يجب الأخذ في الإعتبار العلاقة بين العمق المتزلزل المترجرج وما ينجم عنه من موجات وليس مويجات )

...وعلى هذه الموجات قامت بتشييد ..

( ناطحات الأمل )
إن البناء يحتاج إلى أرض مستوية صلبة وأساس خرساني قوي وخوازيق وحديد لكن ما أوهنه من بناء وما أوهنه من أساس! .. إنه ماء يتحرك والأدهى أنه يتغير ويتقلب باطنه على ظاهره فكيف يصلح محلا للبناء!

أما المبنى فليس بناء صغيرا وإنما ( ناطحات أمل ) فمن شدة الأمل وانخداع المرأة في وجبة المغازلة الصباحية تلك صارت تشيد ما يخترق الهواء ويناطح السماء.. إنه امل كبير وعظيم لكنه يترنح ويتمايل بشدة على الأمواج وممكن أن يتهاوى في أي لحظة

وكانت هذه اللحظة لحظة مجيئه إليها ليلا ربما كان من أجل إدراجها في وجبة مسائية أيضا من المغازلة الكاذبة

فألفاها وقد " شرعت له أبواب كنوزها "
الكنز : هو ما يدفن ويخفيه صاحبه ويصعب الاهتداء إليه إلا بإرشاد صاحب الكنز أو بمحض الصدفة .. لكن في هذه الحالة تظهر مدى السذاجة .. فهي لم تكشف المدفون والمستتر فحسب بل وفرت عليه مشقة السؤال والبحث .. ففتحت له الأبواب وذللت له الصعاب وكأنما تقول " هيت لك " إلا ان هذه لم تغلق الأبواب كامراة العزيز وانما شرعتها ودعته إليها بكل يسر

وكانت المفاجأة الغير متوقعة لها والتي يلخصها الكاتب في (بيسر)

وهي كلمة أراها محورية في القصة .. فهي تتوافق مع مقطع استهتاره بها في أول النص وهذا دليل ترابط في المبنى
فخرجت الكلمة بدون تفكير أو إمعان نظر .. وكان بذلك يقرر مصيرها
وكانت فعلا القنبلة التي زلزلت أعماقها لكن هنا الزلزال حقيقي غير ما سبق فجعلت بحر شعورها يضطرب ويهيج بل ويأتي بتسونامي فتغرق الناطحات المشيدة

(بيسر) ---- قال – تناول
بيسر قال وما أسهل القول الذي يهد الآمال
بيسر تناول الأرث الذي تربى عليه وعهده والذي أيضا فارقه عند اللزوم ويعرف متى يعود إليه ايضا عند اللزوم

" تناول إرث الأجداد " من الأعراف والتقاليد المتفق عليها والتي تربى هوعليها وهذه هي ساعة الجدية الوحيدة له في هذا النص لما تطور الأمر للحظة اتخاذ القرار أما قبل ذلك فكان لهوا وتسلية .. وهذا حال اغلب الرجال من هذه الفصيلة الخسيسة .. فبعدما ينصب شباكه حولها وتقع فريسة يأخذ يلومها .. ولا عجب أنها تستحق اللوم فهي أيضا من نفس نوعية ذاك الرجل الذي رضي لنفسه الانحطاط والوضاعة

( اغربي .. فأنا لا أحب الخؤون )

خائنة لإرث الأجداد الذي تناوله بسهولة .. وخائنة بوجه عام إذ أنها كما تهيئ له السبل فمن الممكن ان تهيئها لغيره فهذا توقع الخيانة منها في المستقبل

النهاية مفتوحة لأي توقع .. فكيف سيكون رد فعل تلك المرأة بعدما انهارت احلامها ؟ .. ان القصة كما أسلفت تركز على الفعل ورد الفعل اما هنا في النهاية فقد أقفلت القصة على فعل وترك رد الفعل للقارئ ليتخيله هو .. وهذا أراه نقطة تحسب للكاتب

العنوان ( الكيد)

 
إرادة الايذاء بالغير في خفاء وهذه هي الفكرة المجردة التي تدور حولها القصة لذا فأنا أرى أن العنوان يفضح النص ويلخص الموضوع الموجود به ويجعل القارئ متوقعا بأن ثمة إيذاء وكيد في الطريق فيعرف القارئ سلفا ما سيقرأ كان ممكنا أن يكون العنوان أكثرعمقا من ذلك أو يحوي رمزية قليلة لفكرة الكيد تجعل القارئ في شغف لربط العلاقة بين العنوان والقصة نفسها

وفي ضوء الأحداث الراهنة يمكن عمل إسقاط للنص :
في رمزية أراها في النص

لعبة الدول:

فمن الممكن في أرض الواقع أن تقوم دولة طاغية السلطان بعمل مغازلة لإحدى الدول الضعيفة وتمنيها بالأماني الواهنة الكاذبة من أجل مقابل ما طبعا .. ولما كانت هذه الأمة ضعيفة مسلوبة الإرادة صدّقت وأخذت تسرف في بناء الأحلام بالديمقراطية والعدالة والحرية .. أحلام بنيت على موجات متحركة مقلقلة ، فبعدما استسلمت تلك الأمة المهزومة وأظهرت كنوزها وأخذت الطاغية منها ما تحتاج ، وبيسر (تناولت) إرث أجداد تلك الأمة الضعيفة لأنها هي التي مهدت لها ذلك – ويظهر هنا اختلاف تأويل معنى ( تناولت ) قليلا عن المعنى الأول الخاص بالمغازلة - فضيعت تلك الأمة الضعيفة كرامتها وحضارتها ... ثم هذه الدولة العاتية قالت ( اغربي ) فقد أخذت منها ما تريد وأكثر ولن تعطيها شيئا .. ( فأنا لا أحب الخؤون) وهذا لا يقال حقيقة أو علانية وإنما يظهر في طيات المعاملات الدولية .. فتكون الأمة الضعيفة أمة لا تحترم ولا يعمل لها حساب لأنها ( خؤون) قد فرطت في نفسها فاستحقت الاحتقار ولا شيئا سواه


اخيرا أرى أن النص مفتوح لعدة تأويلات واسقاطات مختلفة لكن قد يتغير معنى الكلمات ومواضعها وهذا في رأيي المتواضع إبداع من الكاتب الذي صاغ الكلمات والعبارات على قصرها بشكل يسمح بالتأويلات العدة

القصة محكمة مترابطة بشدة كل عبارة فيها -ولا أقول مقطع- يرد على غيره


فلك كل الشكر والامتنان أ منتظر .. دمت مبدعاً