الخميس، 15 سبتمبر 2011

بحيرة البجع - قصة قصيرة





بُحَيرة البجع 

تصافحوا .. تعانقوا وتضاحكوا .. ووعدوه بتكرار الزيارة بعد يومين وانحنى أحدهم عليه يهمس في أذنه  " ... ابحث عنها !!"
أطرق قليلا وفتر ثغره عن ضحكة مستحية ووعد بالتفكير في الموضوع بجدية هذه المرة.


وافترق عنه الجمع في صخب كبير يلوحون بقَنان العصير تسافر وراءهم أصداؤهم يضج بها الهواء فيبترها ويبعثرها في الأرجاء ، هبت نسمات عليلة حاملة نشوة إلى صدره مع ضوعة طيوب ليلكي .. إنها ليلة مقمرة لا تأتي في الشهر إلا مرة واحدة .. لن يرى الحديقة في حليها اللماع هذا إلا مرة واحدة فليتحامل على نفسه إذن وليقاوم دبيب نعاس طفق يغشى جفنيه وليمزجه بذاك المنظر اللجيني الأفيح.


لكنّ العبير يتبدد خلف الأزهار بين مويجات الهواء المتلاحقة .. لم شعاع القمر النقي بانسكاب  صار يهرق في كل اتجاه .. شئ ما يمر .. شئ ما يحلق!!

رفع رأسه إلى السماء تدور عيناه فيها تقلب قطعها السوداء ونجيماتها المتلألئة كل شئ كما هو ، لكن القمر يروح ويجئ إنها أطيار ترفرف تحجب القمروضوءه بأجنحتها الكبيرة .. يخدعه ضوء القمر يستثير عطفه باقتدار فيهيأ له أنها الغربان العملاقة قد غمرت هذا الجزء من البسيطة في ليلته الموعودة المأذون لها بالانعتاق بعد طول الغياب !

انتشت في نفسه رغبة الثأر لذلك القمر الذي تعكر لُجّه  اللؤلؤي ... ثم وضع أنامله  على ثغره كمن لاحت له فكرة شيطانية يخشى من لسانه بها بوحا .. أن يذهب لإحضار قوسه وليقم ببعض الصيد فلا ضير من تلويث سهامه بالقليل من الدماء وسيعطي الطير المطعون حتما للكلاب الضالة لتأكله أو يرميه في النهر الكبير كي تتغذى عليه الأسماك !

أسرع نحو القصر ليجلب القوس ... لكن سيفوته سرب الأطيار قبل الوصول إلى منتصف بهوه حتى! .. رجع أدراجه مسرعا نحو شرفته التي تسفلها شجرة السنديان ..أمسك بأغصانها وفروعها وراح يتسلقها مسرعا يتوجس من زلة قدمه أو انفلاتة قبضته ... حتى تمكن من الوصول إلى الشرفة .." أين القوس .. القوس ؟ ... هاهو!!"


 عاد أدراجه تارة ينظر إلى الفروع وأخرى يرمق السرب من بعيد .. أخذ يقفز تتقافز معه حبات السنديان تملأ الأرض تغطي العشب يدوسها ويعدو ويتعثر يحمل قوسه ويعدو ...رأسه إلى السماء تتعلق عيناه بسرب الأطيار .." ترى أين وجهته ؟!" ..

 إنه يبتعد عن حدود الحديقة .. عن حدود القصر يتجه نحو مكان ضبابي تعلوه الزرقة والبياض...


مصوبا قوسه إلى الأمام .. تتحسس قدماه العشب داكن الخضار .. يدوسه فيداهم حسيسه أذنيه  يضطرب فيرمقه  بومضة ثم يرفقها بواحدة نحو ذلك المكان الغابي

غابة ضبابية يسربلها إزار قمري مفضض يتوسطها صفصافة عملاقة قد نمت أغصانها وغطتها أوراقها حتى بدت كامرأة فارعة ضخمة البنية يخر شعرها من مفرق رأسها يغطي وجهها وجسمها ملامسا الأرض يحركه هبوب الريح بثقل شديد .. فيتحرك بكبرياء شجي كانما يبكي شعرها وتبكي هي من رأسها !.. فطرف شعرها مغيب في بحيرة شفيفة كما من سفاح دموعها .. بحيرة داكنة قد ترقرق على صفحتها إبريق لجيني يتراقص على مويجات الماء ويتماوج دون أن يفارق بقعته ..

... ترجرج وغاب الإبريق في الماء إثر ارتطام أرجل الأطيار بها ... واقفا يرتقب خلف احدى الشجيرات .." ليسوا غربان .. إنما .. بجع!"


تراصت أسراب البجع حول البحيرة اخذت في  رفيف فضي تتثنى وتنفرد حتى استوت معتدلة .. تتفتح منها أجساد أنثوية ممشوقة تماوج بأذرعها تختال كعرائس ثلجية تلفهن سلاسل القمر حتى بدت اجسادا نورانية غضة يحيط خصورهن تنانير بيضاء براقة تتهادى طياتها كلما خطرن على أطراف أصابعهن حتى التففن حول بعضهن ووقفن حول البحيرة قد شرعن أذرعهن إلى أعلى وشبكنها وملن بجذوعهن إلى الأمام نحو البحيرة ..


منبهر .. مضطرب .. لا يدري ، لكن كمن مسه جني أخذ يجره من رقبته قد سحر بأصواتهن المنبهمة تعزف ترنيمة " كلارينيت " بجعي فتسحبه نحو البحيرة .. يقترب منهن وهن لا يتحركن كانهن تماثيل الشمع اللماعة .. ولما اقترب أكثر وجدهن مجتمعات حول عروس أخرى متلملمة على نفسها منثنية تمسك قدميها بكفيها
أحست بدنوه منها فارتعدت فرائصها واستوت قائمة مسرعة ترتجف ذراعاها وتتماوج كما لو كانت ترفرف بجناحيها .. تقف على أطراف أصابعها ترتعش ساقاها من الخوف تزيغ عيناها وتشير إلى قوسه الذي بيده .. إنتبه اليه فقد كان نسيه تماما
-- " اعتذر منك .. سألقيه بعيدا !"


بتوجس دنا منها ولحظ تاجا على رأسها ادرك أنها أميرة هؤلاء العرائس فانحنى إليها
-- " من أنت ؟ ... وكيف أنتن هكذا ؟!"
وضعت أصابعها على ثغرها واخذت تهز رأسها ثم صاحت بصوت عالي الإرنان
-- " ماذا ؟! .. لا تتكلمين! .. أنتِ مسحورة ؟!"
فأومأت برأسها بالإيجاب


قبض على يديها الباردتين ..اخرجها من البحيرة وأخذ يفرك يديها ليدفئها
-- " خسارة ! ... كم أنتِ جميلة .. ولا تتكلمين !"
كدمية ممسكة بيده راحت تقفز على أطراف أصابعها تلوح بذراعها وتبتسم إليه فرحة تشير إلى قلبه ثم إلى القمر

 قطف بعض الزهور الليلكية وشبكهم في تاجها وراح يتحسس الريش الأبيض النابت وسط خصلات شعرها الأحمر ثم جيدها الأبيض الناعم وفستانها المخملي ذا التنورة الهفهافة وعينيها التي أحاط بهما سواد فاحم فبدتا فيروزتين تسبحان في سرداب عميق
-- " من فعل بك هذا؟!"

تحدر قمران من مقلتيها في عبرتين تبللان خديها الاسيلين وثغرها الرقيق الرسم فتغيب في شق شفتيها فبادرهما بانامله يجففهما  " لا تبكي .. سأكون معك ولن أترككِ!"


زادت عبراتها وطوقت رقبته بذراعيها وراحت تبكي ضمها إلى صدره ودار بها وحملها من خصرها تتطاير تنورتها البيضاء ناشرة عبق طيبها وأريج ليلكي وهي تماوج بذراعيها...


تحركت العرائس فجاة قد أخذتهن رعشة عارمة ، تسارعن في الوثب حولهما حتى احطن بهما ورحن يصحن ويُشرن إلى القمر الذي قد احتجب تماما ..حجبه كائن نصف انسان ونصف طائر بجناحيه ضخمان أسودان ..وسريعا انقض ذلك الكائن المريع بجناحيه وسط العرائس يفرقهن فيتلملمن على بعضهن في صفوف يماوجن بأذرعهن من شدة الخوف وترتعش سوقهن !


بينما الأمير قد حمل عروسه ليبتعد عن ذلك الطائر الكبير لكنه أخذ يتعقبهما ويسد عليهما المسالك فينشر عليهما جناحيه وينفث فيهما الريش الأسود .. لمح الأمير طلاسم وتعاويذ منقوشة على طرف جناحيه بالذهب .. " هذا هو ! .. الساحر !"

أخذ الأمير يبحث عن قوسه الذي رماه بعيدا .. وراح يصوب نحو الطائر بلا جدوى؛ إنه يطير عاليا جدا نحو القمر ثم يحط فجأة .. يغشاه بجناحيه وينفث عليه من ريشه ثم يعاود الطيران مجددا .. ألقى الأمير القوس من يده وانتهز فرصة دنو الطائر منه ثم قفز عليه وطرحه أرضا واخذ يلكمه ..ركله الطائر حتى سقط على حافة البحيرة والتقط حجرة كبيرة وقفز على الأمير .. أخرج الامير خنجره بسرعة وغرسه في صدر الطائر فانفجرت من صدره الدماء لكنه كان قوي الجسم فجمع نفسه وضرب الأمير بالحجارة على رأسه فشجها وسقطا في البحيرة ..وماهت البحيرة بالدماء  ...
 صرخت العرائس البيضاء وخرجن في صفوف من وراء الصفصافة وجثون على الأرض قد تكومن على انفسهن ..

بينما راحت العروس الأميرة ترتعش اوصالها وتتهدهد تنورتها الشفيفة وراح خصرها يتثنى كما لو كان يتهاوى على التنورة فتحمله التنورة وتعيده إلى مكانه فيتهاوى عليها من جديد! .. بينما انثنى جيدها كما المقصوف يحمل رأسا مترنحة فتحاول نصبها بكفيها، حتى اقتربت من البحيرة الدامية ووقفت على رجل واحدة ومدت الثانية نحوها فاخضب حذائها البللوري باللون الأحمر .. أغمضت عينيها وأخفت وجهها في كفيها وقفزت في البحيرة ..فتناثرت المياه الحمراء على الزهور الليلكية حولها وصارت تقطر دما يهمي على العشب الأسود ..!!


ثم .....
.....


قامت واقفة معتمدة على إحدى رجليها بينما تلف الثانية وراءها وانحنت في بهاء حتى لامس جبينها ركبتها ..

وانهالت عليها بتلات الأزهار الوردية فغمرتها .. وخشبة المسرح

وارتج ( دار الأوبرا ) على زخات التصفيق الحاد وهتافات الإعجاب .. ووقف البطل إلى جانبها يحيي الجمهور تارة والراقصة تارة أخرى ويصفق لها ..

..وأصفق أنا لها أيضا ووقفت على اطراف أصابعي الصغيرة أقلدها في انحناءة ( بافلوفا ) الشهيرة تلامس جبهتي تنورتي البيضاء التي لبستها وقت مشاهدتي العرض وأخذت أصيح وسط الهتافات .. " سأكون بجعة مثلك يوما ما!!" ..

لكنني لما كبرت لم أتجاوز كوني بجعة نحاسية في صندوق خواتمي الأسود !!



هناك تعليق واحد: