أنا طالع الشجرة !!
يا طالع الشجرة ... هات لي معك بقرة
تحلب وتسقيني ... بالملعقة الصيني
..................
ترتج الشجرة بقوة وتهتز أغصانها .. وتأخذ أوراقها في التهاوي والتبعثر ... حتى بدت كرأس زنجي أشعث صوته مرعب كصوت حفيف أوراقها ... وفجأة وبعيدا عن أي توقع أو تخيل ... سقط جسد عار !! ... فراغت الأصوات بين صرخة وزعقة ... ... وانكسر الإيقاع
-- " جمال !! "
هب الناس نحوه .. قلّبته ... وجهه أصفر شاحب قد تجمدت دماؤه في عروقه ... ماذا حلّ به ؟؟
وبين حسبلة وحوقلة .. مرت الأحداث سراعا أمام عيني في لحظة شرد فيها فكري وشلّ فيها عقلي ...
" قرية البقرة " ... قريتنا ...وسبب التسمية وراء موت صاحبي " جمال " ... رفيق عمري .
كانت تتداول الأخبار منذ زمن ليس بالقصير حول حديقة عمدتنا التي تحوي شجرة وارفة الأغصان ... تضرب بأغصانها في الأرض فينبت لها الجذور فتخرج منها شجرة أخرى وهكذا حتى بدت كسلسلة أشجار ملتفة حولها .. وكان فيما يروى عن هذه الشجرة أن هناك بقرة تسكن أعلاها ولها من الكرامات ما يطير له العقل تعجبا ...
إنها بقرة تتكلم بل والأدهى أنها تحلب نفسها وتسقي عمدتنا " بملعقة صيني " !!
طبعا كان الجميع مصدقين فكل مرة تسقي البقرة فيها عمدتنا يخرج علينا بوجه غير الوجه الذي ذهب به ... يسود شعره الذي اشتعل شيبا ويعود ممتلئا حيوية قد اختفت تجاعيده وعاد ابن الثلاثين ... وما كان أحد ليشك فيما يقوله العمدة وبطانته من ورائه أن البقرة ستسمم البهائم إن امتنع أصحابها من دفع الإيجار أو أنها ستشعل النار في المحصول إن طالب الفلاحون بحصة سماد زائدة ، وأنها ستفعل وتفعل ... وبالفعل كانت كثيرا ما تفعل ...كان حلم البعض وكابوس الكثير أن يجن جنون البقرة وتنزل من الشجرة ... ترى ما شكلها ؟ ... وماذا ستقول لنا ؟؟
وكنت أنا و جمال كسائر الصبية في القرية نجري ونتحلق في حلق ونشدو :
يا طالع الشجرة ... هات لي معك بقرة
تحلب وتسقيني ... بالملعقة الصيني
نحلم بحلم لطالما راود أحلامنا البريئة " أن نطلع الشجرة " ونقابل البقرة بل وننزل بها ليعم خيرها الجميع فتعطي هذا كوب لبن ليتغذى عليه ... وذاك كوب لبن ليصير أكثر شبابا فيقوى على إطعام أولاده ... لكن وحق ربي ما كان احد ليفكر في ذبحها أو تقسيمها علينا ... ترى ماذا كان ليحدث إن تغذينا عليها ؟ ... لا شك أنه الخلود بلا موت !
كانت هذه من المسلمات لدينا ...فكل ما حولنا يؤكد ذلك ... العمدة وبطانته وبعض من تراءت لهم البقرة في المنام .. ومن كان يشك فيها لحظة كان مصيره وصمة الجنون والجحود...
كبرت أنا وجمال ... وكما كنا لا نفترق في القرية كنا لانفترق في الدراسة بالعاصمة ... وعندما عدنا كانت القرية غير القرية ... ماذا تغير فيها ؟ .. ما هذه العيشة؟ .. ما هذ الجهل والفقر والعمى ؟ ... ألا يرون صورهم في المرآة ؟ .. أشباح تمشي على الأرض .. أحياء أموات سلبت من أعينهم الحياة فضلا عن الابتسام .. ملامح بلا معان .. عقول تائهة وآذان من طين كالذي يدوسون عليه .. صارت كل الوجوه متشابهة .. إنهم قوالب يصبون صبا فإذا ما مر بها الهواء تسمع لها دويا كالنحاس المجوف
أخذت أنا وجمال نتجول في القرية نتفرس الوجوه ونقلبها بأعيننا مصدومين ، وكانت صدمتنا الكبرى عندما سمعنا شدو الأولاد :
يا طالع الشجرة ... هات لي معك بقرة
تحلب وتسقيني ... بالملعقة الصيني
--" أتذكر يا جمال ؟"
-- " أجل ، ماذا يقولون ؟ ... إيه الهبل ده !"
-- " يقولون ما يقول أهالو القرية !"
مقطبا جبينه ... " بجلابيته " الزرقاء انطلق إلى والده يدوس طين الأرض بقدميه ... فيتخلل أصابعه :
-- " ما موضوع البقرة يا أبي ؟ "
-- " بقرة الكرامات والنعم يابني .. . ربنا يحميها لنا !"
-- " يا أبي هذه خرافة !"
-- " اسكت يا بني لا ترفع صوتك فيسمعك الناس "
-- " ألا تسمع يا أبي ما ينشده الصغار ويردده الكبار ؟!! ... كيف تعيش بقرة فوق شجرة ؟... وكيف تحلب وتسقي بنفسها ؟!"
-- " تسقي بالملعقة الصيني "
-- " الملعقة صيني أم صنعت في الصين ؟ .... ويا ترى البقرة جنسيتها إيه ؟ ... أمريكاني؟ ! ... والشجرة شجرتنا ومزروعة في أرضنا وتسقى من مائنا ودمنا !"
-- " اسكت يا بني .. كفاية كلام "
-- " نعم كفاية كلام .. ويبقى الفعل !"
جريت وراءه .." ماذا ستفعل يا جمال ؟ " ....
-- " أنا طالع الشجرة !"
أخذت اجتهد في العدو خلفه إلا أنه صار كمارد خرج من مصباحه حديثا .. لا يمكنني اللحاق به أو إيقافه أخشى إن اعترضته أن ينفث النار ويحرقني ! .. قد استشاط غضبا فأصبح لا يرى سوى الشجرة في حديقة العمدة ماثلة أمامه تحوي هذه البقرة الشاذة ... التي رضيت مفارقة قطيعها من الأبقار وآثرت العيش منعزلة ... وقد مسخت طبيعتها فبدلا من حرثها الأرض صارت تسكن الأشجار وتنظر إلى الناس من عل وتخور مستهزئة بهم ... وطمست فطرتها فبدلا من خضوعها لثورها صارت تحلب نفسها بنفسها وتسقي عمدتنا وترضعه لبنها فيعود شابا من احضانها .....
-- " جمال ... جمال ... انتظر لا تدخل على العمدة هكذا .. لا بد من تصريح ! ... انتظر حتى يخرج من الشرفة أو ينزل يشرب الشاي في الحديقة ... لا تتعدى حرمة الدار ! "
تعالت أصواتنا واختلفت أيدينا بين شد وجذب ..فاجتمع أهل القرية حولنا فانتهز جمال الفرصة ووقف خطيبا :" يا أهل القرية .... قد عشتم سنوات طوالا في خرافة ... خرافة البقرة التي تسكن الشجرة ... لا يوجد شئ كهذا ! ... سأثبت لكم .. سأدخل الدار وأطلع الشجرة وألوح لكم من فوق .. أنه لا يوجد لا بقرة ولا ملعقة صيني !"
وكما توقعت ... ارتفعت الأصوات وامتزجت بين سب ولعن ... نصح وتحذير ... وخوف وترقب ... وكاد الأمر يتطور للصقع والصفع والرجم والحثو إلا ان هلّة العمدة علينا من شرفته كانت أذهب لكل هذا
سكون ترقب جاثم على صدور الأهالي .. شق صوته الأجش السكون
-- " ما هذه الجلبة ؟ ... وما هذا التجمهر ؟ "
-- " أريد أن أطلع الشجرة !"
وسط أصداء ضحكه المجلجل الذي رددته صدورهم كانت المفاجأة
-- " حسنا ... افتحوا له الأبواب ... تفضل !"
أ بهذه السهولة يكون الأمر ؟! ... إذن لم لم يطلبه أحد من قبل ؟ ... ولم سكتنا عليه الدهر ولم يجسر أحد بالتفكير فيه حتى ؟! ...
أثناء دهشة الجميع ، تردد جمال ... يمشي .. يجري ... يخطو خطوة ويتلفت حوله خشية طلقة غدر ... وينظر إلى الأهالي رؤوس مطأطئة وأعناق مشرئبة ...وأعين متعلقة بين الخوف والأمل ... يرى في أحدها الدموع وفي أخرى التبسم ...
فما أن اطمأن لمسيره حتى أخذ يعدو نحو الشجرة المحفوفة بسياج الأشجار ...
يا طالع الشجرة ... هات لي معك بقرة
تحلب وتسقيني ... بالملعقة الصيني
وسريعا شمر " جلابيته " حتى بدت ساقاه السمراوتان النحيلتان وأخذ يتسلق الشجرة .. راح يتشبث بالأغصان وتتشبث به الأعين والأنفاس .. إن انزلقت قدمه انزلقت قلوبنا وسقطت تحت قدميه
فما إن وصل إلى قمتها حتى استوى قائما وأشار لنا من بعيد منفرج الأسارير ...... وكانت اللحظة ... لحظة ولوجه في الشجرة ليغيب وسط أوراقها الكثيفة .. كطبقات وحجب بيننا وبينه
.........
خرجت " جلابيته " الزرقاء ملوحة في الهواء معلنة الظفر والنصر .... فانفرجت على إثرها الأفواه مكبرة ، ثم .... سقطت
-- " هل سيخرج الآن ؟ .... بلا جلابية .. عاريا ؟!"
وسط ترقب الرجال وغض طرف النساء ... صاح صوت عال هزّ الأركان ... خوار بقرة !! ... خارت على إثره القلوب وذابت من الرعب والخور
-- " هل هناك بقرة ؟ ... ولم لوح بجلابيته ؟ ... ما الأمر ؟"
وكان ما كان ... انكسر الايقاع ... واهتزت الشجرة وسقط جمال عار الجسد
ووسط الصراخ والعويل وذهول الألباب ... أخذت أقلب جسده ...ماذا حلّ به ؟
وفتحت فمه ... وإذا الملعقة الصيني قد حشرت في حلقه
... فحبست بذلك أنفاسه !
رائعة بحق
ردحذفشكرا لك على هذا الابداع
الملعقة ... يا له من خيال جم
مشكور جداً
ردحذفمدونه الاختراع ابداع بلا حدود كونكر برفيت سيرفر
smart-inv.blogspot.com