الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

طلقة - قصة قصيرة

طلقة





طلقة ..

وماءٌ يسيلُ  .. من بين رجليها يبللُ المقعد ، في الأرضية بركةٌ تغمرُ قدميها ..

..

طلقة ..

ودماءٌ تنفجرُ .. بقعةٌ بنفسجيةٌ تعلو فستانها الأزرقَ ، لا تفرقُ كثيرًا عن لون شفتيها ..


  ....


لم يرعبني منظرُها هكذا .. فقد تلقيتُ الصدمةَ كاملة أول ما أبصرتُها ! ، بالكاد أتفرَّسُها تحت وميض البرق .. هزيلةٌ تشدُّ شعرها الطويل المتهدِّل المبتل، لا تفترُ عن طرقِ المقعد الخشبي بكفيها .. رأسُها إلى السماء ، يُرجّع صراخها صدىً يلاحقُ الرعد .. مَنْ هذه المجنونة التي تخرجُ في مثلِ هذه الساعة من تلك الليلةِ العاصفةِ ؟! .. تنتظرُ الحافلة؟ .. وحدها ؟! .. أين زوجُها أو أحدُ ذكور عائلتها ؟! ..




أتلفَّتُ حولي عساني أجد لها نجدةً ، لم يكنْ غيري .. نزلتُ من سيارتي ، أسندتُّها إلى كتفي وهي تسندُ أسفلَ بطنها المتكورِ المنتفخِ بيدها ، جسمُها الباردُ ينتفضُ بين ذراعيّ .. "ما أفعل ؟! .. إلى أين آخذكِ ؟!" ..

صراخُها يوتّرُني .. أنسَاني العناوينَ والأماكن!، كلُّ المباني متشابهةٌ .. ضخمةٌ غارقةٌ في صمتٍ عجيبٍ ، يجعلها أكثرَ وحشةً من ظلِّ خلفيةٍ للوحةِ أطلالٍ مقبورة ، تستثيرُ هلعي باقتدار! .. في تلك المدينة الغريبة التي هجرها سكانها هذه الليلة فقط ، لا تتحركُ سوى سيارتي الهوجاء تدورُ في متاهةٍ ، تتعملقُ الدقائقُ ، تضغطُ أعصابي .. تنحتُها بأزميلٍ .. تتساقطُ فتاتاً بسيارتي أدهُسُه ، بينما أنا مشلولٌ على المقود!


..


تتشبثُ بذراعي وتمرِّغُ وجهَها في كتفي ، تسمِّرني في مُدن فزعي التي أجتازُها بمركبتي .. أردتُ قطعَ ذلك الصراخ الجنوني بنزر حديثٍ عاقلٍ .. " من أنتِ؟ .. كيف أتصل بأهلك ؟ " .. فجأة تبتعدُ عني .. تتكئُ على النافذة وتنخرطُ في البكاء .. أنظرُها في ضوءِ السماء الكهربائي الخاطف .. مليحةٌ ملامحُها .. أجل! .. تبدو يافعةً رغم شحوبها وزُرقة شفتيها .. وقطرات المطر على الزُّجاج التي تخطّ وجهها دموعاً قاتمةً مبعثرةً ..


أحاولُ لَملمةَ شتاتها .. " لمَ تبكين ؟ "

تمسكُ بأسفل بطنها ترفعُه وتضمُ فخذيها بارتعادٍ .. " لا أريدُ أن ألد !  .. ليتني أحبسُه في ( عُنقي )، تنحشر رأسُه بداخلي فيختنق .. قبل أن أسمعَ صُراخه .. قبل أن أراه .. قبل أن أشتمَ جلده الورديّ ، عندما للدنيا أُطلقُه ! "


....


طلقة .. طلقة ..

يسيلُ الماء .. تنفجرُ الدماء ..

بركةٌ في أرضية السيارة .. وبقعةٌ على الفستان ..


وأزرارُ الفُستان على عجلٍ تفكُّها .. قد استعرَ جسدُها .. تَرْشحُ من الثنايا .. تجتاحها الرّجفات ، يعلو الصُّراخ وتمسكُ ببطنها .." لا .. لا تنزلْ !!"



- "سننزلُ ! .. هيا ، ها هو المشفى !"

تأبَى .. أجذبُها بكلتا يديّ .. تتشبثُ بالمقعد وتصيحُ في وجهي .." دعني أموتُ هنا ! " .. أحاولُ إخراجها من السيارة وهي تسحبُ نفسَها إلى الداخل .. تجلسُ مستعرضةً لتنحشرَ في الباب .

...


كم هي عسيرةٌ إزاحتكِ ! ..

مؤلمٌ خمشكِ إياي !


أ تُراهم يُسرعون نحوي يخلصُونني من مخالبها المستحكمة ؟! .. يشدُّونها من ذراعيها ورجليها ليجلسُوها على كرسيٍ مدولبٍ .. يمرقون بها وسطَ سيولِ الأمطار .. العجلاتُ تنزلقُ بين طينٍ وماءٍ .. وقطراتِ دماء .. يُشظِّيني أزيزُها تحت دورانها المرتجف ..


....


-- " أسرعوا !!"

كطلقةٍ تدوّي في بهو المشفى .. على إثرها هرعَ أصحابُ المعاطف البيضاء بالنقالة 
، والمرأةُ تلقي بنفسها على الأرض ، تُلوثها ببقاياها .. تتلوّى .. لا يزالُ فيها رمقُ المقاومة ! .. تحاولُ الفرار .. يلقون بأنفسهم عليها يثبتونها في الأرض كمجرمٍ رهنَ الاعتقال .. يتكالبُون عليها .. على الذبيحة ! .. كلٌّ منهم يتناولُ طرفاً .. وذاك أسفلها يطالبُها أن تفتحَ رجليها ..!


وددتُ لو استدرت وخرجت من الباب مسرعاً.. وددتُ لو أواري وجهي بين كفي .. لكنني كنتُ أرتعدُ كلّما علا بكاؤها .. تنظرُ إليّ من بعيدٍ معاتبةً إياي .. أنا من أحضرتُها إلى هنا ، كم رجوتُ لو أرفعهم جميعاً عنها .. أن ألكمَهم خاصةً ذلك الذي يضربُها على فخذها .. لكن ..



-- "ها هو الرأسُ ..! .. هيا .. ادفعي لأسفلَ قليلاً ! .. تنفّسي !  "

يدُه تخرجُ من تحتها ترسمُ كفّاً من الدماء على الملاءة البيضاء .. يولّدُها .. يغتالُها .. وأنا منكمشٌ في زاوية الباب .. يرميني بين حينٍ وآخر بابتسامةٍ مواربة ٍ، أنّه قد شرُفَ على الانتهاءِ منها .. وسيسمحُ لي بالاقتراب .. لمّا يحين دَوري ! .. أنينُها يحتقنُ .. ينحبسُ في حلقي ريقاً علقماً ! .. تتصلّبُ صورتها في محجريّ، وقد بدأت نظراتُها تذوي شيئاً فشيئاً ..




وتعودُ طلقةٌ جديدةٌ بالقفز إلى هذا الجسدِ المتفسّخ تنطُرُه ، ليطلقَ صُراخاً من جميعِ الجوانب ، فيجتمع صوتُهما في صدري يضجُّ منهما بالبكاء .. يلفّون قطعةَ لحمٍ حمراءَ في منشفةٍ كبيرةٍ يأخذونها بعيداً.. تزعقُ على أمّها .. أمّها التي غابت عيناها في ضوءِ الكشّاف المسلط عليها .. حتى .. ألقيت الملاءةُ على وجهها بلا اكتراثٍ ..

أخذني الخدرُ .. قرفصتُ في الأرض ، لم تعد رجلاي تحملاني .. لم تعُد عيناي تبصران ، قد تزاحمت الصورُ والألوان .. وماهت بين خطواتِ الأقدام السريعة حولي هنا وهناك ، وتلك اللفافة التي دُفعت إليّ دفعاً لأخرجَ من البابِ مذهولاً مما رأيتُ  ..




في الخارج .. مطرٌ ..


وصراخٌ منبعثٌ من تلك اللفافة أستفيقُ عليه وأنا تحت زخاتٍ من المطر .. أدثّرُ ذلك الوليد الذي فتحَ فاه وأداره نحو صدري ، فلا يجدُ سوى ثيابي المبتلة .. راح يلكزُني بقدميه الصغيرتين .. أين أذهبُ به ؟.. أجسّ أطرافَه .. بدأت تبردُ .. تتيبسُ .. تتمعدنُ .. أسحُّ فوقه .. عبراتي تقرعُه .. سوادٌ ثقيلٌ بلا هواء يتوسدني ، فتغمغم الأصواتُ من حولي ، لم أعد أعي ما أسمعُ سوى نشيجي المتقطع ..

أقلّبُه من جميع الجوانب .. والآن أراه بعد أن انقشعَت الغياماتُ عن عينيّ .. أسودَ معدنيّاً .. فاتحاً فاه في وجهي بلا صوت .. أتعجّلُ مِنْ فِيه طلقةً تُخرجني من عالمي ..


فينتظرني أن أضغطَ على زناده لينفجرَ في وجهي ! .. كانفراجةِ " أنت ابن حـــرااا.. م ! " من بين شفتين عابثتين .. تعيدُني في كل مرةٍ إلى حكايتي ذاتها ..

...


والتي بطلتُها في كلِ مرةٍ ..

تلك التي ألعنُها كلَ يومٍ!



___________________________



دينا نبيل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق