الاثنين، 8 أبريل 2013

أنا عشقت .. من الدور الغنائي إلى الرواية البوليفونية



"أنا عشقت"... من الدور الغنائي إلى الرواية البوليفونية
" آ





ه .. أنا عشقت وشفت غيري كتير عشق
عمري ما شفت المر إلا في هواك 
(أغنية للشيخ سيد درويش) "

قد يلفت انتباه المتلقي عنوان الرواية " أنا عشقت " للكاتب محمد المنسي قنديل، إذ يحيل العنوان إلى أحد الأدوار الغنائية الشهيرة في الموسيقى العربية للشيخ سيد درويش والذي يحمل الاسم ذاته، ثمّ لا يلبث المتلقي أن يصافح العتبة الثانية للرواية؛ فيجد البيت الأول من أغنية " أنا عشقت " ليؤكد الكاتب أنّ اختيار العنوان لم يكن عبثاً، وإنما كان عن قصد، لا ليحيل القارئ إلى كلمات الأغنية وإنما إلى قالب غنائي يتناغم بقوة مع ثيمة وبنية الرواية السردية، ألا وهو قالب "الدور الغنائي". و"الدور" يعني الحركة والتنقّل ثم العودة إلى البداية, فيتنقل الملحن بين المقامات الموسيقية المتعددة ثم يعود ليستقر على المقام الأصلي. وليس من الغريب على كاتب وباحث في التراث العربي كالمنسي قنديل أن يتخيّر قالباً غنائياً أصيلاً من أغنى مؤلفات التراث العربي الموسيقي ليكون ركيزة لبنية رواية تخوض في التجريب والحداثة بعمق.
وإذا كان الملحّن في "الدور" يتنتقل بين أجناس موسيقية يتبادل أداءها كل من المغني والمذهبجية، فإن الكاتب في رواية " أنا عشقت " يستعين بتقنية تعدد الأصوات في شكل أقرب ما يكون إلى بنية " الدور"؛ فيتراوح السرد بين بطل الرواية "علي" - السارد الرئيس - وأربع شخصيات أخرى شبيهة بمجموعة مذهبجية يتناوبون السرد معه. ومن ثمّ يؤثث الكاتب رواية (بوليفونية) أي متعددة الأصوات والمنظورات السردية والفضاءات؛ تبدأ من نقطة ضيقة ثم تأخذ في التشعّب والاتساع ، لتعود في نهاية المطاف من حيث ما بدأت وتتقلص في المشهد الأول من الرواية بين "حسن" و"ورد".
1-          التعددية في الأطروحات الفكرية :
تبتعد الرواية عن الطرح التقليدي ذي الرؤية الواحدة التي تهيمن على السرد، فهي رواية دينامية تطرح بامتياز رؤى متعددة تتحرك من دائرة الأنا إلى فضاءات الأنا الغيرية؛ إذ تدور في إطار البحث عن "حسن" وتجميع المعلومات عنه من مصادر مختلفة، يقول علي: "ولكن رغماً عني عدت إلى نقطة البداية مرة أخرى، وأصبح هناك لا شيء يقودني إليه"، إن القارئ يتقمّص موقف "على" في كل مرحلة يجتازها في بحثه عن "حسن"؛ ما بين استنكار تركه حبيبته متجمدّة على محطة القطار بلا مبالاة، ثم التعاطف معه كشخص فقد أباه وضاع مستقبله وتم الزجّ به إلى السجن، ثم الشعور نحوه كمجرم محترف يقتل بدم بارد، لذا فكان احتجاج " علي " أن تحيى "ورد" بعد أن يلمسها "حسن" ، يقول:" إنه لا يحمل إلا الموت، كل ما يلمسه يموت كان يجب ألا تستيقظي من لمسته!". فتتبدّى جدلية الحياة والموت، ومَن لديه القدرة على إعطاء الحب والحياة للآخر دون مقابل، وهل يكفي أن يكون الإنسان طيباً كي يهب الحياة لغيره أم يمكن أيضاً للمجرم أن يفعل ذلك ؟. وهكذا لم تعد الحقائق المطلقة مسلّماً بها، بل إنّ كل شيء قابل للشك، والتعددية ومخالفة التوقع؛ وهذا هو عين التجريب.
وتلامس الرواية وتراً حساساً حول نسبية الشخصية الإنسانية، وكيف يمكن لليأس والرغبة المكبوتة أن تحول عصفوراً بريئاً مثل "حسن" إلى وحش قاتل، يقول "آدم" شريكه في الإجرام :" لم أدر أنني ساعدته على اكتشاف الوحش الذي بداخله، أنت في الموقف نفسه الآن، إما أن تدعه يكشف عن الوحش الذي بداخلك، وإما أن تأخذه إلى مدينتك "، فيشكك الكاتب في جوانب النفس الإنسانية المطلقة الخيّرة أو الشريرة ، ويُظهر كم أن الحد الفاصل بين الخير والشر في النفس دقيق للغاية.
2- تعدد الأصوات :
تتميز الشخصيات في الرواية بالاستقلال النسبي، والقدرة على التعبير عن عوالمها الداخلية، لذا فتختلف المنظورات السردية بين المتكلم والمخاطب والغائب لأن الهدف من تعدد الأصوات هو تقديمها كذوات فاعلة تعرض رؤيتها دون تدخل من الكاتب وهو ما يعرف بـــ" دمقرطة " الرواية. فالشخصيات ليست صدىً لصوت المؤلف؛ فـــ"عزوز – مهرج الشوارع" و"عبد المعطي – خريج السجون" و"سمية يسري – رابعة هندسة" و "ذكرى البرعي – سيدة الأعمال"، عوالم مستقلة داخل خطة الكاتب، تسرد تجربتها الخاصة ثم لا يلبث أن يضفّرها الكاتب بمهارة ضمن الحكي الروائي.
يقدّم الكاتب من خلال شخوصه أنماط وعي مختلفة عبر ثنائيات الحبس والجمود والحركة والدوران؛ فــ " عزوز " يستسلم لأمره الواقع كمهرج لأصحاب وجوه جامدة، يقول:" هؤلاء الأبالسة الصغار، لماذا لا يضحكون؟ لماذا شبّوا مثل آبائهم يحملون السحن الكئيبة نفسها؟" ويقبل العيش في معبد يهودي مهجور ويتخلّى عن محبوبته ليكتفى بمجرد طيفها الذي يزوره ليلاً في وحدته. و"عبد المعطي" خريج السجون تظل مشاعره حبيسة تمثال فتاة في متحف للآثار، وهنا كانت مفارقة رائعة، فبالرغم من تحرك مشاعر "عبد المعطي" نحو تمثال المتحف مما دفعه إلى صناعة تمثال فخاري محاكٍ ، فكان جزاؤه الحبس في سجن قضى على ما تبقى من حريته وكرامته، ليمضي حياته مشاطراً حسن في مسكنه، يقول: "ومهما استطالت أيام وحدتي لم أشْكُ، أصبح حسن بالنسبة إليّ نوعاً من القدر، يظهر حين لا أتوقع، ويختفي من دون أن يأبه بإخباري"، وهذا هو التحول الكامل إلى الجمود والاستسلام للقدر. أما بقية الشخصيات فكانت تفيق متأخرة جداً؛ فــــ"سمية يسري" استسلمت لشهوة جسدها ووهم الزواج من أستاذها الجامعي، ولم تفق إلا بعد أن حملت منه. و" ذكرى البرعي" ظلت حبيسة " ذكرى " والدها وقاربه الغريق، فأفاقت على تحولها من فتاة بسيطة إلى سلعة للإتجار على يد "أكرم البدري" تقول: " لم أكن تحدثت مع أحد عن أبي، وعن الانكسار الذي تركه في داخلي، وعن العالم الذي تدمّر عندما توقف مركبه عن الإبحار"، وبالرغم من انتقامها منه إلا أنه قتلها بواسطة "حسن". وباستقراء تلك الشخوص يتبيّن أنّ "علي" هو المتحرك الوحيد الإيجابي، بينما "حسن" لم يظهر صوته إلا قرب نهاية الرواية ليسد فراغات الحكي ويروي تحوله من معيد بالكلية إلى مجرم قاتل، فكان تحركه في الاتجاه السلبي المضاد، بينما "ورد" الشخصية الوحيدة بلا صوت – باستثناء المشهد الأول، فقد كان صمتها مثالاً مجسماً للجمود الذي يدفع الغير نحو التحرك. إذن، يقدّم الكاتب من خلال هذه النماذج أنماطاً للوعي الإنساني باختلاف توجهاته لتعزف نغمة واحدة تؤكد على قضية الاستسلام للأمر الواقع والدوران في فلك الحياة.
3- كرنفالية الفضاء :
يمثل الفضاء "الزمكاني" للرواية فضاءً للصدامات والأزمات، ويتسم بالكرنفالية والتعددية حد التناقض، فتتنوع الأمكنة وتتحول إلى أماكن معادية تثير الاشمئزاز والقلق والموت، بينما يكون الزمن مهدمّاً مفككاً. فمحطة القطار فاصل زمني في واقع "ورد" ، فيتجمد الزمن عندها بينما تسعى بقية الشخوص إلى التحرك نحو الوراء واسترجاع ما مضى من أحداث للتعرف على سر ذلك الحبيب الذي كان غيابه سبباً في تجمدّها، ومن ناحية أخرى يدفع "علي" بعجلة السرد إلى الأمام حفاظاً على عنصر التصاعد والتأزم في ظل الأحداث المستَرجَعة. كما أنّ المحطة مكان لا يحمل نوعاً من الاستقرار والانتماء، فهناك السفر وحركة القطارات الروتينية الدائمة، يقول جمعة ناظر المحطة:" القطارات لا تتوقف إلا إذا توقفت الدنيا عن الدوران"، ومن هنا يضع الكاتب الثناءية الضدية – الفتاة المتجمدة من جهة والقطارات دائمة الحركة والدوران من جهة أخرى، فيطرح ضمنياً فكرة الحياة البينية التي أشار إليها "علي" بحياة " الزومبي "، يقول الطبيب الشرعي عنها :" كل شيء يتكرر بالكيفية نفسها والمنوال نفسه. هذه ليست حياة، إنه الجمود الذي يقود إلى التحلل".
وبقية الأمكنة المصاحبة للساردين دليل قوي على حالة الموت/الحياة البينية ، فــ "عزوز" المهرج يقطن المعبد حيث تزوره أطياف الموتى في كرنفالية طقوسهم الدينية ورائحة الياسمين المصاحبة للشموع، يقول:" يُخيَّل إليّ أنهم لم يرحلوا جميعاً، ما زالت أطيافهم تراقبني، وفي لحظة ما.. سيهاجمونني ". كذلك رحلة الأقصر وحفلات السمر وأزيائها والمعابد الفرعونية واستحضار الجو الأسطوري للإلهة نوت التي تنحني على الأرض ووقوف " سمية " مع أستاذها في نقطة التقاء الأرض بالسماء، يوحي بالاستسلام للشهوة وارتباطها الجسدي به. وتبدو الكرنفالية بجلاء في حفل العزبة - "فلاحين بارتي" – بصخبها وتناقضاتها، وعلاقات الشذوذ والحميمية، والمجون، تقول "ذكرى": " نسير وسط حلقات صاخبة من الرجال والنساء يضحكون ويرقصون ويتقافزون، نساء مثلنا يلبسن ملابس مكشوفة الصدور"، فيختلط الغني بالفقير، والراقي بالمنحط، والحاجة بالصفقة والشهوة . ومن ثمّ فالكاتب يعرض المعاناة الإنسانية وعلاقتها بالمحيط الخارجي، عبر جدلية الداخل المغلق الخانق– المعبد/قلعة الكبش/الدير، والخارج المفتوح المجهول - المحطة حيث تتعرض " ورد " لهجمات الكلاب المسعورة وصحراء الدير القاتلة.
وأخيراً ، إن رواية " أنا عشقت " رواية تجريبية تتناص شكلياً مع بنية الدور الغنائي وقد استفاد الكاتب من البنية المركبة للدور في خلق رواية بوليفونية تنحو إلى التعدد في كل شيء، كما أستفاد من فكرة الدور وحركته الدائرية في طرح معانات إنسانية بملابسات مختلفة وكيف تعود من حيث ما بدأت، وإثارة تفكير القارئ إن كان الإنسان في الحقيقة يتغير ويتقدم أم أنه يدور حول نفسه.


دينا نبيل عبد الرحمن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق