الأسطورة في
"آخر
المستحمات في حمام زبيدة
"
للقاصّ العراقي / حامد فاضل
مقدمة:
يعد التراث العربي مادة
خصبة بالدرجة الأولى في توليد الإبداع الأدبي ، فالتراث هو الموروث
الماضي وفي نفس الوقت ، الحاضر على عديد من المستويات ، وهو الهوية الثقافية
لأية أمّة والتي بدونها تضمحل وتنهار. ولما كانت الأسطورة هي ( سرد قصصي مشوّه للأحداث التاريخية التي تعمد إليه المخيلة
الشعبية ، فتبتدع الحكايات الدينية والقومية والفلسفية لتثير بها انتباه الجمهور ،
وتعتمد الأسطورة عادة تقاليد العامة وأحاديثهم وحكاياتهم)[1] فإنها بذلك
تكون جزءاً لا يتجزأ من التراث ، وهي لا تعني مجتمعاً دون آخر ، بل هي ( تراث اشتراك لا تراث حكر ، فلا يوجد شعب يزعم أن التعبير
الاستعاري عنده لا مثيل له لدى الشعوب الأخرى)[2] ، وذلك لأن ( المجتمعات تميل إلى التشابه والتماثل في النظام الأدبي ، لأن
هذا النظام هو عرف اجتماعي ونفسي ومزاجي مهما كانت المجتمعات والنفوس والأمزجة
متباينة ومختلفة)[3] ، ومن ثمّ فالأسطورة لا تنتمي إلى زمان أو مكان بعينه .
وتتميز الأسطورة بميزة لا توجد في سواها من الصنوف التراثية ألا وهي تأثر الناس
بها واعتقادهم فيها إلى حد ما - بشكل
" لا شعوري " - رغم التطور العلمي ، فلا يزال لها هذا السحر الذي يجذب
إليه القراء فضلا عن الكتّاب . ولما كانت الأسطورة في الزمن السحيق ( عبارة عن مواجهة الجسد لمظاهر الطبيعة والكون)[4]
لينشئ نوعاً من الانسجام بين الإنسان والطبيعة ، إلا أنّ الأديب المعاصر كثيرا ما يلجأ
لها لكي ينخلق ( تصور واضح لحركة التطور في الحياة
الإنسانية ، و..الربط بين : أحلام العقل
الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين :الماضي والحاضر، والتوحيد بين : التجربة
الذاتية والتجربة الجماعية .. ، وتفتح آفاقها لقبول ألوان عميقة من القوى
المتصارعة ، والتنويع في أشكال التركيب والبناء)[5] ، فكثيراً ما
استخدمت الأسطورة لعكس الواقع العربي السياسي والاجتماعي ومآل الأمة العربية سواء
بتجسيد الآمال أو محاولة الهروب من ذلك الواقع المرير أو الرغبة في استعادة الماضي
بأصالته ومجده متجسداً في شكل أسطوري .
وفي ( آخر
المستحمات في حمام زبيدة ) للقاص العراقي حامد
فاضل ، يتجلى استخدام الرموز الأسطورية العربية وتوظيفها بشكل جديد
معاصر ؛
فـقام بــ (استدعاء نصوص من هذا التراث [العربي] وبثها
بين تضاعيف السرد دونما محاكاة لأنماط السرد التراثية أو لتقاليد السرد التراثي)[6] ،
وقد أجاد الكاتب في ذلك خاصة أنه أضاف إلى هذه الرموز تلك الرمزية التي تفتح باب
التأويل والقراءات المتعددة على مصراعيه من أجل توصيل رسائل عدة .
وفي هذا المقال يتم معالجة المحاور التي تمظهرت
فيها الأسطورة .
المحاور :
1-
تجليات في أسطورة
هارون الرشيد
2-
رمز الغزالة
العربية
3-
الصحراء
كفضاء أسطوري
1-
تجليات
في أسطورة هارون الرشيد و" حمام زبيدة " :
ينظر إلى هارون الرشيد كشخصية تاريخية من الدرجة
الأولى بحكم كونه أحد الخلفاء العباسيين والذي يعرف عصره بالعصر الذهبي ، إلا أنّ
هذه الشخصية تميزت ببعد أشبه بالأسطوري إلى حد كبير خاصة لاقتران اسمه بقصص "
ألف ليلة وليلة "، فــ ( أحاط بعض رواة الليالي شخصيّة الخليفة الرشيد بهالة قدسيّة
وأسطوريّة ، وبسلطة مطلقة تمتدّ إلى فضاءات الدولة العباسيّة كلّها .. مثل ما ذكر
في حكاية " غانم بن أيوب وقوت القلوب "... أو في حكاية " علي نور الدين وأنيس الجليس
")[7] ، فيلازم ذكره كحاكم عشقه للندماء والسكر والغناء والنساء.
وسواء
أكان هذا الكلام صحيحاً أم باطلاً كما يشكك فيه المؤرخون ويجزمون بلا عقلانيته ، إلا
أن اسم " هارون الرشيد " يبقى ذا طابع أسطوري رنان يخيل للقارئ هذا الجو
السحري للرشيد والحريم وقصره المنيف .
وفي القصة لم يُتطرق إلى السرد التاريخي أو
الحقائق المرتبطة بهذه الشخصية ، وإنما انصبت على
تلك الأجواء المصاحبة لأسطورة الرشيد ، والتي تتجلى منذ استهلالية القصة ،إلا
أنها وظفت بشكل مغاير عن جو الأسطورة المعهود .
لقد كان التقديم لشخصية الرشيد مألوفاً مثله
كمثل " ألف ليلة وليلة" واعتمد الكاتب
نفس الطريقة على لسان شهرزاد بكلماتها الشهيرة : "
.. وقد أسطرته أنثى تجيد نسج الحكايات بنول الكلام، وقبل أن يدركها الصباح،
فيسكتها عن الكلام المباح، قالت .. بلغني
أيها الملك السعيد ذو الرأي السديد أن الرشيد كان حاسر الرأس، عاري الجسد، وفي
ذروة الانتشاء، بين اللهاث، وبين التأوه، مضغوطة، متقطعة، من فمه جاءت (نعم)..
"
**إلا أنّ المتلقي يلاحظ صياغة وتوظيفاً مختلفاً لهذه الأسطورة في القصة
التي بين أيدينا :
## لقد كان لوصف المكان الضمني في استهلالية النص
دور كبير في جذب انتباه المتلقي للتعرف على هذا المكان الغير واضح والذي لا يعرف
عنه سوى أنه غرفة النوم ليكتشف بعد ذلك أنه كان في قصر الخلافة ، فيشعر القارئ أنه
مقدم على جو فريد في نوعه لم يسبر أغواره من قبل يلّفه الطابع الأسطوري : " أتخيل وأنا في محاولتي للكتابة أن هناك احتمال، بأن
سيدة بني العباس فكرت بحمامها في لحظة توجب الاغتسال، إذن ستنعطف الحكاية نحو غرفة
نوم قصر الخلافة .. أفترض أنه في ليلة من ليالي الغرام، أماط الخليفة اللثام
.. "
## إلا أنّ هذه
الديباجة كانت مفارقة لأفق توقع
المتلقي ؛ فهي ليست سحرية خيالية أسطورية كما المعهود في " ألف ليلة وليلة "، فقد كانت توصيفاً لمشهد حميمي
بين أي رجل وامرأة ، رغم ما يكتنفه من لمسات ساحرة حيث
يتعانق الإيجاز مع حسن الإيقاع في السجع وبلاغة الكاتب في التصوير : "لحظة الاشتعال،
لحظة من وصال، بها يتساوى جميع الرجال، تُخْتَمُ فيها العيون بشمع الخيال
.. "
إلا أنه توصيف طبيعي لا يختلف فيه هارون الرشيد
عن غيره من الرجال ، بل كان ذكره أقرب إلى التمهيد لمعرفة ظروف إنشاء " حمام
زبيدة أو " عين زبيدة " .
## ثم ما يلبث القارئ أن يفاجأ بتغير لغة القصة
بشكل جذري خاصة فيما يخص القصص التي تعتمد ذكر الرموز الأسطورية ، استخدم الكاتب
تقنية ( التفتيت ) حيث ينتقل من
أسطورة الرشيد إلى الوصف المكاني المفصل بدقة شديدة بالأرقام والأبعاد والمسافات
وكأنه يجعل المتلقي أمام خريطة لا قصة :" ارتأى
مهندسو تلك المنازل أن تتراوح المسافة بين منزل، ومنزل من ( 13 ـــ 15) كيلومتراً
كما ارتأوا أن ينتبذ الحمام مكانا قصيا ً
على بعد ( 120) كيلومتراً عن النجف، و(55 ) كيلومتراً عن الشبكة.." ولا
يمكن إغفال دور هذا التحديد الجغرافي للمكان في إيقاظ حس القارئ الذي قد مهده له
الكاتب كمكان متخيَّل .
لذا فيلاحظ أنّ
الأسطورة قد جاءت متشظية من خلال السير بالحدث في مسار سردي جديد حيث الوصف
المكاني ثم تخيل زبيدة زوجة الرشيد في الحمام :
" ربما تكون السيدة العباسية الأولى
الآن بحمامها تغتسل، تزيح بالماء الزلال تراب السفر .. وبين يديها الماشطات يمشطن
شعرها، أو يظفرن جدائلها، والمدلكات يدلكن ساقيها، أو يفركن قدميها، ربما هي الآن
غاطسة في حوض ماء الورد، ومن حولها الخادمات يخدمنها، والنديمات ينشدنها الشعر.."
،
أي أنّ الكاتب
تعمّد كسر النمط التتابعي للأسطورة والسرد القصصي في آن واحد مما يرفع درجة
التشويق لدى المتلقي إلى أقصى ما يكون .
ربما يشعر القارئ – في
النصف الأول من القصة - بحِيرة لا تخلو من متعة لاكتناه سبب هذا التشظي للأسطورة
الشهيرة وتعمد استخدام الأرقام الدقيق والصارم والذي يعد غريباً على السرد القصصي
ولغته المعروفة بالشعرية ، إلا أن هذه الحيرة لن تنجلي إلا بعد ولوج المتلقي في
النصف الثاني من القصة والاقتراب من نهايتها وذلك لظهور رمز أسطوري عربي يتمثل في
الغزالة العربية وانشغال القارئ بها كالعدّاء خلفها ليلحق بدلالتها الغائبة.
2-
رمز الغزالة العربية :
لقد كان للغزال قداسة
في الجاهلية ، ويستدل على هذه القداسة بحرص
الشعراء على ألا يقتل الغزال في قصائدهم ، يقول امرؤ القيس:
وماذا
عليه لو ذكرت أوانساً
كغزلان
رمل في محاريب أقيال
وكثيراً ما صُوّر تعرض
الغزال للمطاردة والإفزاع، لذا فهو حريص على الابتعاد عن أماكن تواجد الصيادين ،وإن
قُدر للصياد رؤية الغزال ومحاولة اصطياده فإنَّ نتيجة هذه المطاردة تكون في صالح
الغزال ، لذا فلا يتسنى ظهوره إلا عند الفجر أو الغروب . يعتبر الغزال كحيوان عربي
هو الأجمل ، الأرشق ، الأذكى والأكثر تواضعاً صاحب الكبرياء ؛ فهو أشبه بالفارس
الأمير الذي لا يعرف المناورات ، فقط السباق في خط مستقيم بلا التواء .
وقد لجأ الكاتب في
النصف الثاني من القصة إلى استخدام الغزالة وتخليق جو أسطوري لها لنسج وصياغة أسطورة
منها ، فيحلم بها الراوي ويتخيلها :" فكرت
لو أنني خليت زمام حكاية الحمام ليتمها صديقي البدوي، ورحت أبحث قانصا ً في
الجوار، لعلي أحظى بصيد فريد، ويشاء أن يأتي القدر بغزالة تركت أكوام قرون أجدادها
عند نصب المنارة.. وجاءت تروم الورد في الحمام "
ويظل يتداولها الشخوص
في القصة وكأنها صارت حكاية أسطورية يتناقلونها فيما بينهم :" وقيل أن
راعيا ً عازبا ً كان أول من رآها، وأخبر عنها، وصار يحدث الناس سواء سألوه عنها أم
لم يسألوه .. يكرر حكايته في كل مجلس"
## الغزالة كبطلة : فقد أعطاها
الكاتب الحصة الوافية من العنوان - أول عتبة للنص - ( آخر
المستحمات في حمام زبيدة ) والتي قد يظن المتلقي للوهلة الأولى أنها إحدى
صويحبات زبيدة أو إحدى النساء ، إلا أنه لا يكتشف حقيقة ( آخر ) المستحمات إلا عند وصوله إلى ( آخر
) النص وما بين تلك المستحمة وذلك الحمام في أول النص يكمن عنصر التشويق في القصة
حتى آخر كلمة فيها حيث تدور كل الأحداث حولها بما فيها المقدمة التي كانت تمهيداً
لذكر الغزالة ومكان موتها .
## تعدد الساردين : فلم
يقولب الكاتب الغزالة في حدود راوٍ واحد فقط حتى وإن كان الراوي العليم بكل
الدقائق والظواهر والبواطن ، وإنما ساق الحديث عن تلك الغزالة على لسان أكثر من
راوٍ ، ابتداءً من الراوي المشارك في الأحداث ثم البدوي الخرافي ثم الراعي العازب ،
وكل منهم يتخيلها ويروي عنها جزءاً ما ، مما يخلق حولها جواً أسطوريا .
ويلاحظ
المتلقي بالنظر إلى الرواة الثلاثة أنها قد أخذت شكل القوالب الأشبه بالصناديق المتداخلة
، فكل منهم يروي عن الآخر ؛ فالراوي المشارك يبدأ الرواية عنها :" أنا لم
أكن جهرت بما كنت أفكر فيه، فكيف تلقفته أُذن صديقي معجم البادية، فجاءني على غفلة
كالردم ليروزني بعين كعين الصقر..، قال ذلك البدوي الخرافي : أتفكر أن تأتي إليك
غزالة ؟ "
ثم يبدأ الراوي الثاني البدوي الخرافي بالسرد
داخل قالب الراوي الأول حتى نهاية القصة :" ثم
بدأ يسرد حكايته : حدث ذلك في القيظ .. والقيظ كما تعرف لا يرحم أهل الحضر، فما
بالك بأهل المدر.. فكانت هي جنية الحمّام الجميلة، غزالة لم تقع عين / القوافين / ..
على غزالة من قبلها، ولا من بعدها .. وقيل أن راعيا ً عازبا كان أول من رآها،
وأخبر عنها"
ثم يبدأ الراوي الثالث الراعي العازب بالسرد
داخل الرواية الثانية ولكن روايته تكون منغلقة أي محددة النهاية والإطار : " يكرر حكايته في كل مجلس : يا جماعة الخير كانت الشمس
قد ترجلت عن ناقتها، والشمس كما تعرفون تدعى الغزالة .. عرفت كل ذرة رمل بدرب
زبيدة أنني عاشق لتلك الغزالة .. ومثل قطاة مفزوعة كانت حكاية ذلك الراعي تطير
وتقع بين الخيام"
## الغرائبية : استطاع الكاتب باقتدار خلق أسطورة تلك الغزالة التي تشبه الجنية والجميع
يبحث عنها لاهثاً ، لم يكتف بذلك ، بل لاذ بالجو الغرائبي السُريالي في تصوير أول
ظهور لتلك الغزالة الجنية :" رأيت
منارة ( أم القرون ) بعينيّ هاتين اللتين سأطعمهما في النهاية للدود / تهتز/ تتلوى
/ كامرأة فاجأها الطلق، ثم رأيت شبحاً يقفز منها، يهرع نحو خيمة الأفق، هنالك على
بعد رصاصة من مكاني، رأيت جنية بهيئة غزالة، رأيتها فاتحة فمها لتبل ريقها برطوبة
نسيم الشمال"
فلجأ الكاتب إلى ما يعرف بالواقعية السحرية حيث قدّم (موضوعات قريبة في
غرابتها من عوالم الحلم وما يخرج عن العالم المألوف من رموز وأشكال .. غير أنها
تنضاف هنا وبصورة أساسية أيضاً ، إلى
تفاصيل الواقع ، إذ يرسم القاص تفاصيله رسما موغلاً في البساطة والألفة ، مما يزيد
حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل)[8] ، كذلك
عند قفلة القصة حيث موت الغزالة كان بطريقة أقرب للغرائبية : " فنفرت
الغزالة، وقفزت الى أعلا ما تدفعها قوائمها طائرة فوق رؤوسهم، لتلوذ بحجر أمها
البادية، ولكنها حين نطقت البنادق نكست الى الحمام ثانية، فاستقبلتها السيدة
زبيدة، فكانت آخر المستحمات بحمامها الذي تغير لون الماء في حياضه الى الأحمر
القاني ." فتترك القارئ يفارق النص عند تلك الخاتمة الحزينة .
## مفارقة : لا تتوقف هذه
الأسطورة عند ذلك الحد الأسطوري المألوف والذي تتغلب فيه الغزالة دوماً وتفوز
بجولتها في المطاردة ، فها هو الخط الواقعي يدخل وبقوة ؛ فما تفعل غزالة واحدة وإن
كانت جنية أمام الأغراب من العصر الحديث بأسلحتهم الشيطانية الفتّاكة وهي تلك
المنتمية إلى البادية حيث البساطة والعجز في آن واحد :
" الغزالة كالردم / تنحط / تنحدر / تلتف / تركض / تقفز / تسرع / تناور/ والسيارة تسرع في إثرها، الصيادون مبتهجين
يصرخون ونظرة الظفر في أعينهم .. تمهلوا حين رؤها تدخل حمام زبيدة، تتوقف / لاهثة
/ متعبة / عطشانة / قرب حوض استحمام السيدة المترع بالماء القراح .. لم يمهلوها
حتى تشرب .." ، إنها حرب غير متكافئة بين المفرد والجماعة ، بين
الفطرة والتطور ، بين الماضي الأصيل والحاضر المخيف ، فكانت الغلبة للصيادين ،
وقتلت في النهاية الغزالة لتعود إلى أحضان أمها البادية التي كانت أرحم بها من
البشر .
3- الصحراء كفضاء أسطوري :
تعدّ الصحراء الفضاء الروائي للقصة حيث تجري
فيها جُلّ الأحداث ، وقد انتقل الكاتب من فضاء الصحراء الجغرافي في النصف الأول من
النص بتوصيفها الدقيق إلى فضاء أسطوري في النصف الثاني .
ربما
تظهر الصحراء كفضاء طبيعي في ظاهره القحل والتقشف والجدب :" فوقهم الشمس محمرة العين غاضبة، تحتهم الرمال في المحماس
تحمس، قدامهم الصحراء مسفوحة، حولهم الكثبان حاسرة الرأس جاثمة، والجو خال،
والهواء مقيد، الشجيرات محنية الظهر مثل العجائز، والحصا يتوهج كالجمر، والحجارة
تكاد تفتتها قبضة الصهد " ، إلا أنه استطاع أن يخلق منها فضاءً
أسطورياً من التفاصيل التي أضيفت إليها ، ابتداءً من جو البدو والخيام والاعتماد على طبيعة الصحراء ذاتها ؛ فهي ذلك
الفضاء الواسع اللانهائي حيث يضع الإنسان في مواجهة مع ذاته وقدره الحقيقي ؛ فيغيب
الإنسان في وسط كثبانها الرملية ويصير ذرة من رمالها .
وقد أحسن الكاتب في استخدام عدد قليل من الشخوص
في ذلك الفضاء مما يسمح لكل منها بالتخيل والتأمل ، فتظهر النفس الإنسانية ضعيفة ،وذلك
بفضل الرمزية التي أضيفت إليها باستخدام الغزالة كرمز أسطوري ،فــ ( تستعمل الرمزية للتعبير عن الحالات النفسية المركبة العميقة
.. وذلك بفضل الخيال الذي يستعين به [الأديب] لتصوير رؤى شعرية تعبر عن مكنونات
النفس وخواطرها )[9] ، فكثيراً ما تحاول النفس البشرية مغالبة الأصل –
الطبيعة – والانتصار عليها بفضل الآلة ، والتي
في هذا النص مع الأسف لا تنتمي حتي لبيئة هؤلاء مما يعطي بعداً إضافياً لواقع تلك
النفس العربية المهزومة ، فلقد لجأ الصيادون لأساليب لا تنتمي لهذا المجتمع - حتى
وإن كانوا من مجتمع قريب من تلك الصحراء ، إلا أنها ذات الفكر والتكوين - من أجل
قتل رموزه وعناصره الأصيلة المتمثلة في الغزالة ، فتختار البطولة والتضحية على
الخبث والمراوغة ، فكانت البادية هي الأم الرحيمة التي قد تؤذي قاطنيها من قسوتها
إلا أنها لا تقتلهم وتجهز عليهم.
لقد كانت الصحراء هي ذلك الفضاء الواسع الذي
يفضح النفس البشرية الضئيلة المتقوقعة وراء الأقنعة ، ففيها يعود الجميع إلى فطرته
، والمثير أنه يكشف عن حجم الصدام بين الإنسان العربي وأصله
وتاريخه بحكم الانتماء المكاني ..
ومن هنا بالإمكان ربط
أول النص بآخره .. لتظهر الهوة السحيقة ، ففي أول النص كانت مظاهر السلطان
والازدهار التي تمكن من إقامة مشروع عملاق من الكوفة إلى مكة من أجل زرع عيون
الماء في الطريق يشرب منها البشر والحيوان والنبات .. الآن وقد صارت قاحلة مهملة ليس
فيها سوى النزر اليسير تقتل فيها الكائنات قبل الوصول إليها لتتحول العين إلى بركة
من الدماء ! ، ومن هذا الصدام تتلاشى قيمة الزمن المعنوية ، ويبقى القارئ بين
واقعين المقارنة بينهما مؤلمة .
خاتمة
:
إن قصة ( آخر المستحمات في حمام زبيدة ) تتمظهر فيها
الأسطورة العربية الأصيلة والتي اعتمدها الكاتب في تأصيل فكرة المقابلة بين الماضي
المزهر والحاضر المؤلم بكل مفارقاته ، وقد نجح الكاتب باقتدار في توظيف الخط
الواقعي بمحاذاة الخط الأسطوري بحد يصعب العثور عليه مما أعطى العمل فنية عالية .
أضف أنه نجح في خلق أسطورة جديدة والتي كانت هي بطلة هذا النص ( الغزالة ) . ولكن
يبقى النص بحاجة إلى دراسات كبيرة ومتنوعة عليه ذلك لثرائه المتميز وتعدد التأويلات
فيه ، وهذا إبداع من الكاتب .
المراجع
:
1- المعجم الأدبي: جبور عبد النور،دار
العلم للملايين1984 ، ط2 ،ص 19
2- النظرية الأدبية الحديثة والنقد
الأسطوري : حنّا عبود ، إتحاد الكتاب العرب 1999 ،ص 90
3- النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري ، ص 7
4- النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري ،ص 44
5- اتجاهات الشعر العربي المعاصر: د/ إحسان عباس ،
عالم المعرفة ، ص 129
6- النزوع الأسطوري في الرواية العربية (دراسة) : د/ نضال
الصالح ،اتحاد الكتاب العرب2001، دمشق: ط1.
7- هارون الرشيد في ألف ليلة وليلة: د. محمد عبد الرحمن يونس، مجلة أفق :
الأثنين 01 أبريل 2002
8- دليل الناقد الأدبي : د/ ميجان
الرويلي و د/ سعد البازعي، المركز العربي الثقافي2002 ط3،ص 348
9- الأدب
ومذاهبه : محمد مندور ، ص 115 ___________________________________________________
دينا نبيل -- مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق