الثلاثاء، 9 أبريل 2013

رحلة غرائبية على متن " الفيل الأزرق "



رحلة غرائبية على متن " الفيل الأزرق "




" تطلّب الأمر مني لحظات لأستوعب القبر الذي دفنت فيه، أتنفس أنفاسي المستهلكة وأحاول الاعتدال فلا أستطيع ، يبدو أن الفيل قد جلس فوقي .. عيناي في مواجهة الشمس، فتحتها بصعوبة فسالت منها دموع وزبد أبيض وصديد، لحظات وبدأت أميّز معالم رجل عملاق يقف فوقي ، يرتدي سروالاً بنيّاً يصل لركبتيه، قابضاً بكفيه على عصاة غليظة ويحيط برأسه قفص حديدي صدئ!! ، رأيت صورهم من قبل في كتب تاريخ الطب، كانوا يحتمون بالأقفاص كخوذ تقيهم بطش المجانين .. أمثالي .. أنا في مستشفى! .. مستشفى أمراض عقلية ! في وقت ما ! "
رواية " الفيل الأزرق" للكاتب أحمد مراد، هي الرواية الثالثة له بعد روايتيّ " فيرتيجو" و" تراب الماس"، والروايات الثلاث يشتركن في طابعهن البوليسي وموضوعة الجريمة وفكّ الألغاز، إلا أنّ رواية " الفيل الأزرق" تأخذ وجهة مغايرة عمّا كتبه الكاتب من قبل، ألا وهو البعد الغرائبي. والغرائبية أسلوب تخييلي يعمد فيه المؤلف إلى معاينة الواقع بعين جديدة تنسج عوالم سحرية غريبة مفارقة للعقل داخل عالم النص الواقعي، ومن ثمّ تحتفي بالمكان والرمز وتغرق في التهويمات مستعينة بانزياحات اللغة وإيحاءاتها وتقنياتها العالية لاختراق المألوف والخروج من المحدود للغوص إلى أغوار الروح، مما يقدّم مستوىً فكريّاً أكثر عمقاً ورصانةً.

·تجربة الاقتراب من الموت :

لم يظهر " قرص الفيل الأزرق " – " تذكرة لعالم البرزخ رايح جاي " – إلا قرب منتصف الرواية إلا أنه برحلاته الثلاث كان الأكثر هيمنة على السرد والأشد جذباً لترقب المتلقي الذي يرى بعيني السارد تجربة فريدة من نوعها. تتلخص تجربة الاقتراب من الموت في كونها عملية انفصال "مؤقت" تنفصل فيه الروح عن الجسد مما يمكّن الروح من أن ترى نوعاً من الرؤى والمشاهد الروحانية لجوانب من العالم الآخر ولكن نظراً لغياب الأدلة العلمية على تلك الفرضية، يشكك كثير من العلماء في صحتها ولا يعدّونها أكثر من مجرد هلوسة أو أضعاث أحلام. ولا شك فإن وصف الكاتب الدقيق لتلك التجربة بغرائبيتها يثير في ذهن المتلقي تساؤلاً عن مدى صدق تلك التجربة لاسيما وأن بطلها طبيب نفساني ذو تفكير علمي بحت وافتراضات تخضع للمعيار والقياس.
الرؤى ليست محض أحلام دلالية تعكس لاوعي البطل السارد إزاء واقعه، ولا هي مقاطع سردية منفصلة عن الأحداث وإنما هي أحداث فرعية مضفّرة بحنكة تجسّد مشهدية حية عجائبية لخبرات السارد الماضية والمستقبلية، التي يتلقفها البطل من الكتب والجرائد والشخوص المحيطة. والرؤى لا تفرغ فحواها مباشرة وإنما هي بين مد وجزر؛ لا تفتر أن تنتهي واحدة حتى تلاحقها التالية بمعلومات مكملّة، يستعين بها يحيى – البطل السارد - في سد فراغات قضية " شريف الكردي " الطبيب النفساني وصديقه المتهم بقتل زوجته " بسمة " والمريض بالفصام أو "السكيزوفرينيا" على حدّ التشخيص العام لحالته. الرؤية الأولى تنصبّ على تصوير مشهد بسمة عند النافذة قبيل إلقاء شريف لها، يقول يحيى: " الغرفة ازدادت وسعاً كملعب كرة بلا مدرجات! يجب أن أفيق .. لا أستطيع أن أراه وهو يلقيها .. كلما اقترب شريف منها صارت الغرفة أكثر زرقة .. قدماي تنهاران من تحتي .. بسمة تنظر إلى .. تستغيث "، بينما الرؤية الثانية رحلة إلى بيت المأمون – المذكورة قصته في كتاب الجبرتي وقصة مس الجن له وحمل زوجته من الجنيّ ، تسهم في فكّ شفرة الوشم على فخذ " بسمة " والذي يصادف تشابهه مع وشم مثيل تدّقه عجوز على فخذ زوجة المأمون " سيدة الدار"، تقول سيدة الوشم: "رسمة الوردة لازم تبات في جلدك اتنين وسبعين يوم لغاية ما ينفك سحرك"، ثم يأتي حلّ العقدة الأخيرة من اللغز عند دخول يحيى في جسد المأمون حتى تتبلور القضية كاملة، يقول سيد الخياط : " منها لله الجاهلة اللي دقّت الطلسم على حريمك ..جلبت لها نايل لعنة الله عليه.. نكاح سفلي والعياذ بالله .. يشم الطلسم .. يحضر ويغيبك كما النايم.. تروح أنت ويحلّ هو يلف نفسه عليك.. وتصحا في يوم تلاقي كل شيء اتبدل وراح ". إن الرحلات الثلاث محاطة بحدث مبتور وهو زيارة " يحيى " لــ " ديجا " صاحبة محل الوشم؛ ليعود بعد الرحلة الثالثة إليها مجدداً محمّلاً بمعلومات اكتسبها من رؤياه الأخيرة ، فيواجهها بشأن الطلسم والسحر، ثم يصب التهمة عليها ويكتشف أنها سيدة الوشم، وتسببها في انتقال الجنيّ لــ" شريف " وحمل " بسمة " من الجني لتتكرر قصة المأمون وسيدة الدار. ومن هنا، يتمكن يحيى من فك السحر وتخليص شريف من مس الجنّ. وهنا يقف القارئ حائراً هل تجربة الاقتراب من الموت مصدر حقيقي لاستقاء الخبرات ومكاشفة عالم الحقيقة بعيداً عن تلوث الماديات؟ ، وهل الأمر بسهولة نسبة المشكلة برمّتها إلى السحر والجن كي يكون الحل في محض ورقة صغيرة يرفعها يحيى في وجه شريف أو الاحتماء بقميص ذي أرقام؟.

·جمالية الغرائبية :

تشترك رؤى تلك التجربة في سمة " تشكُّل الصور وتحوّلها " والتي هي إحدى سمات العالم الغرائبي في عالم " ألف ليلة وليلة " مما يحيل المتلقي إلى فلسفة الأشياء وما وراء المادة مما يضيف إليها حياةً وروحاً فتتنفس وتنبض بعد أن كانت جماداً، يقول: وشم على شكل كلمات .. لا أرقام! أحد عشر رقماً مكتوباً بحبر غير ثابت ما إن لمستها بأناملي حتى استحالت حشرات صغيرة وانسلّت من بين أصابع قدميها لتتوه في العشب الأخضر الذي كان قديماً سجادة " ، فالأشياء تتبدل وتتحول تلقائياً أو بالملامسة ، يقول:" الطفل كان عارياً مستلقياً على ظهره.. لكن ذراع المسكين كانت تحمل وحمة دموية حمراء عكرت صفو نقائها .. لامستها تحركت كأنها زئبق يتلوى، وضعت أناملي ثانية فوقها فتحركت تجاه أصبعي كبرادة حديد.. الكيان يتخذ طريقه تجاه ظفري .. ميزت أرجل دقيقة تخرج من جسم بغيض " ، وفي الرحلة الثالثة كان تحوّل سيدة الدار إلى " لبنى " – حبيبة يحيى، ويحيى إلى شخصية المأمون، وبروز شجرة الكافور المقطوعة في صالة شقته، وتبدّل الغرف وكل غرفة تنفتح على عالم مختلف ، فإن تلك التحولات الغرائبية وما لها من بعد جمالي لا يخطئه قارئ، تفيد في نقل الخبرة وتأملاتها الحادة في مكاشفة معاناة البطل السارد. ويحتفي الكاتب بعنصر " المكان " ويعتنى به أيّما اعتناء بعدسته التصويرية الناقلة لأدق التفاصيل؛ فهو ليس مكاناً جامداً وإنما ينبض ويتعملق في كل مرحلة؛ يبدأ من مكان جغرافي داخلي محدود ثم ينطلق في بحبوحة المطلق واللامحدود ليطرح جدلية النسبي والمطلق، وضآلة الإنسان في احتمائه بالجدران واختراق الحوادث عالمه الضيق وهو التجسيد الصادق لحال يحيى يقول: " اللعنة على الباب الذي انفتح على حياتي المستقرة الهادئة الميتة بخشوع ناسك بوذي أبكم أطرش أعمى، كم أكره التغيير!!" فتبدو الثنائية بأضدادها ( البيت واللابيت ) الأشياء المتمايزة المألوفة في مقابل الأشياء الغرائبية حيث تناقص ملامح الهوية وبعد الألفة وزيادة الشعور بالاغتراب.

·الغرائبية والاغتراب :

إن الجو الغرائبي الذي ينسجه الكاتب في الرواية بإحكام إلى حدّ يجعل المتلقي مصدقاً في كثير من قضاياها الغرائبية: تجربة الاقتراب من الموت أو نكاح الإنس والجن، لاسيما وأن الرواية على لسان البطل السارد بضمير المتكلم وهو طبيب نفسي يعرف أعراض الأمراض النفسية ولم يتوان عن مدّ المتلقي بها من حين لآخر، فالقارئ يتوقف أكثر من مرة أمام الأحداث متسائلاً عن مدى صحتها من خطئها ولكن لا يتمالك نفسه أمام عنصر الجذب واعتماد الكاتب ذاته على حيلة نفسانية بأن يقدّم خيارات محددة أمام القارئ وعليه أن يختار بينها ولا مجال للتفكير، فإما أنّ شريف مريض أو محتال أو ممسوس، وبسمة إما خائنة أو ضحية مرض زوجها أو منتحرة، ويحيى إما سليم أو مريض.
إن الرؤية الأخيرة في الاقتباس الذي جاء في صدر هذا المقال والذي يفزع فيه يحيى إثر الزجّ به في مستشفى للأمراض العقلية، يحاول القارئ الربط بينه وبين نقطة تحول كبيرة في الرواية وهي احتمالية إصابة يحيى نفسه بالفصام وأن أغلب أحداث الرواية لم تكن سوى ضلالات وهلاوس في عقل يحيى وحده، وهناك أدلة كثيرة يمكن تلمسها على هذا الافتراض؛ فهو الشاهد الوحيد لما يدعوه بحالة "ازدواجية" شريف وانشطاره لشخصين مختلفين، أحدهما والذي يفسّره في الأخير أنه جنّي يعرف كل تفاصيل حياته بل ويصارحه برؤاه أثناء تعاطي قرص الفيل الأزرق، وهنا يقف القارئ متأملاً قول د. كيلاني " آخر واحد بيعرف إنه عيان هو المريض نفسه " وتصريح شريف ذاته بمرض يحيى بالفصام وإثبات ذلك عبر المسجل الفارغ  والمكالمات التي ينسجها خياله في مقابل نفي يحيى فكرة مرضه على لسان شطر شريف المتخيل. لسنا هنا بإزاء تحليل لأسباب يحيى المرضية إذ أن هذا الفرض لا يتعدى كونه إحدى مستويات الدلالة التي تطرحها الرواية، إلا أنّ التعرف على خلفية البطل النفسية تسهم في تفسير استعانة الكاتب بالبعد الغرائبي في السرد؛ لذا فتجاوز القراءة الانطباعية المستهلكة تستنطق النص لتكشف المضمر خلف الأبعاد الدرامية المخاتلة. فعقدة الذنب التي صارت تهاجم يحيى في شكل " الكلب الأسود " بشأن تسببه في قتل زوجته وابنته ومن بعدهما مايا عشيقته وتعاطيه الحشيش وإدمان الكحول واعتزال العمل والخلطة لمدة خمس سنوات ثم العودة لمعترك الحياة مجدداً ليبدأ الماضي بمهاجمته؛ جعلته يهرب من واقعه النفسي والاجتماعي عبر شعوره بالاضطهاد المرضي من كل من حوله، ثم محاولة إثبات ذاته أمام حبيبته القديمة " لبنى " كي يبدو أنه الشخص الوحيد الذي كان يستحقها، وإن كان من خلال تخبّطه في التأويلات اللاعقلانية ورحلاته الغرائبية .

 ومن ثمّ تتبدّى العلاقة بين حالة الاغتراب النفسي الذي يعيشه البطل وأسلوب الغرائبية الذي استعان به الكاتب وكان موفقاً في نقل تجربة يحيى بخصوصياتها ومصداقيتها العالية على لسانه. فالكاتب المعاصر لم يعد قادراً على تصوير سلسلة العذابات الإنسانية ومعاناة الإنسان في عالمه الواقعي المعقد بأدواته التقليدية، فكان البعد الغرائبي ليوظّف الخيال في اختراق سكون السطح الواقعي. وإن كانت نهاية الرواية تنتهي ببساطة على كونه مجرد حلم يستيقظ منه البطل ليجد الأمور قد تبدلت بانتهاء مشاكله وعودته للعمل والزواج من " لبنى"، فهل الحياة بسهولة الأماني الوردية أم هي إحدى هلاوساته الجديدة للهروب؟. وهكذا يترك الكاتب النهاية مفتوحة للقارئ يؤولها وفق فهمه للرواية، فهي ليست رواية تقدم إجابات سائغة وإنما رواية أسئلة ومفاتيح كل منها يردّ ويهدم ما قبله من افتراضات وهذا تجريب موفق يضيف إلى رصيد الكاتب.

دينا نبيل عبد الرحمن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق