السبت، 1 يونيو 2013

"حاوي عروس" .. الأسطورة وزمن البداءة








"حاوي عروس" .. الأسطورة وزمن البداءة



" يمدّ يده في الهواء جالباً باقة صبار شديد الاخضرار. يرمي باقة الصبار إلى أعلى . تتناثر فوق الرؤوس طراطير ملونة. ينظر أهل القرية إلى بعضهم البعض ويضحكون. لكنهم عندما يحاولون خلع الطراطير لا تنخلع. حاول البعض قصها أو نشرها أو حتى حرقها. لكنهم جميعاً فشلوا. فتركوها في مكانها ومارسوا حياتهم متجاهلين إياها. حتى نسوها تماماً ولم يعودوا يرونها/ قصة " حاوي ".



بين قصتي "حاوي" و"عروس" تقع المجموعة القصصية "حاوي عروس" للأديب منير عتيبة الصادرة ضمن سلسلة " كتابات جديدة " عن الهيئة المصرية العامة للكتاب . لا تقتصر المجموعة على كونها متألفة من مجرد قصص قصيرة ، وإنما تأخذ صفة المتوالية؛ فأحداث المتوالية تقع في فضاء روائي واحد " قرية خورشيد " بالإسكندرية وإن تعددت الأماكن الروائية ذات السمة الكرنفالية (السوق- موردة الجنايني – ترعة المحمودية - المقابر). كما تعرض لأحداث تقع لعوائل تقطن هذه القرية يربط بينها عددٌ من الروابط الإنسانية: الدم والنسب والصداقة. ومن ثمَّ يلمح المتلقي تكرار بعض الأسماء وألقاب العائلات، بل وتلتقي الثيمات المسيطرة على المتوالية وإن اختلف التعبير عنها بأكثر من أسلوب ورمز. وعليه تتبدّى سمة التعددية في المتوالية؛ فتقف كل قصة ككيان مستقل نسبياً ، متصل منفصل في آن واحد يغاير الكاتب فيما بينها بين تقنيات تحفظ لكل قصة جماليتها وذاتيتها التي لا تنفي تسلسلها ضمن كُليّة العمل. على الرغم من ولوج الكاتب عوالم الغرائبية والواقعية السحرية في أعمال قصصية سابقة مثل:" يا فراخ العالم اتحدوا " و"مرج الكحل" إلا أنّ هذه المجموعة تأخذ منحى مختلفاً وأكثر رصانة ألا وهو البعد الأسطوري الملحمي الذي تتفاوت قوته بين أصالة الأسطورة واستقاء المُخيل الجمعيّ من الحكايات الشعبية والطوطمية. فلطالما كانت الأسطورة والمحكي الشعبي معيناً لا ينضب للأدب المعاصر، لاسيما عند تناول المسكوت عنه اجتماعياً كان أو سياسياً أو دينياً.

تبدأ المتوالية "حاوي عروس" منذ الإهداء بطرح ثنائيات دلالية عدّة ، يقول :" إلى خورشيد التي تعرفونها، وخورشيد التي لا يعرفها غيري ". فالإهداء نص موازٍ غير منبت الصلة عن ثيمة العمل، يطرح ثنائية المعرفة واللامعرفة وما بينهما من مستويات الإدراك؛ تبدأ من اللامعرفة إلى المعرفة السطحية ثم الواقعية وصولاً إلى الماورائية. ينبني على هذا الإهداء تأصيل فكرة البطل الأسطوري أو الشعبي في مواجهة الجماعة إذ يضع الفرد - "لا يعرفها غيري" - في وجه الجماعة "لا تعرفونها" المراد تغييرها. وعليه كان الإهداء إلى المكان وليس الشخوص، حتى كاد أن يتحول إلى بطل المتوالية وليس الشخوص.

يجيء المفتتح بتذييل "من كتاب تاريخ خورشيد غير الرسمي" ، ليغور الكاتب في أعماق تاريخ منسيّ غير معلن لقرية شهدت موطئ آدم وحواء وأول شعور لهما بالتقلصات المعوية؛ ومن هنا تأتي وظيفة الأسطورة في العودة إلى زمن البداءة الإنسانية بحثاً عن المعرفة وإجابة عن تساؤلات جوهرية منذ بدء الخليقة والتحديات الكونية لطاقة الإنسان مما يجعله في صراع دائم بين تحدٍ واستسلام ؛ فالصراع الأزلي بين الخير والشر كان محور الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، يقول :"حوّل الشيطان نفسه إلى ثعبان ضخم، التحم مع الحية في رقصة زواج عنيفة، تركت الحية بعض بيضها في المكان"، فتتّحد قوى الشر(الحية والشيطان) لمواجهة العدو المشترك - آدم وحواء وذريتهما. عندما تنضام هذه العناصر تأخذ "خورشيد" حيث الصراعات حد الغرائبية ومفارقة العقل ما يجعلها تشبه قرية جارسيا ماركيز "ماكوندو" في رائعته " مئة عام من العزلة "؛ فهي مركز الكون ومحور حياة قاطنيها كما هو الأصل في المجتمعات الإنسانية التي تمثّل القرية نواتها، ولا يفكّر أهلوها في الخروج منها بالرغم مما يكابدونه من ظلم وضيم، فيضع الكاتب أزلية المكان الأسطوري في مقابلة استسلام الشخوص أحياناً أو محاولتهم هباءً تحديه؛ فالزمن – البعد الرابع للمكان - أزلي وإن استشعر القارئ الحركة الزمنية ودائرية الحياة وتلاقي الأجيال إلا أن التوظيف الأسطوري خلق جواً من الأزلية ذا دلالات رمزية.

1-                (حاوي / وليّ / حفرة) :
تبدأ المتوالية بثلاث قصص، يتولى السرد فيها راوٍ مشارك ثانوي الدور يقتصر على الرؤية من الخارج ونقل الأخبار التي يتناقلها أهل القرية حتى تصل إلى مسامعه لذا تكثر أفعال "سمعت، يقال، قالوا" التي تنسج جواً أسطورياً حول الشخوص المحورية. في قصة "حاوي" يأتي التناقض بين أهل القرية الذين يمثلون حزمة واحدة تشبه " تماثيل خشبية مسوسة بلا وعي" على النقيض من الحاوي ذي الصوت المهيب، يقول الراوي :" قالوا إنه اعتاد الظهور كل يوم أحد، وقالوا إنه يظهر مرة كل شهر، والبعض أكّد أنه يظهر كل قرن مرة "، فهو خارق في هيئته وظهوره المفاجئ واختفائه " ككتلة من نار" . ليست أفعال الحاوي هنا مجرد ألعاب خفّة اليد المثيرة للضحك والاستمتاع، وإنما أفعال خارقة تبثّ الرعب في قلوب جمهور القرية، فباقة الورد البلدي يحولها إلى براز عصافير يتناثر فوق الرؤوس، وعود الفل الأبيض يصير كلابشات صدئة تلتف حول الأيدي والأرجل ولكنهم يعتادون عليها في كل مرة. إن بواطن رمزية الموقف الغرائبي يعكس أزمة القرية التي تنبذ المقاومة دون البحث فيما وراء الأشياء للوصول إلى حقيقتها؛ فتؤثر الاستسلام واعتياد الأزمات حدّ نسيانهم إياها وإن كانوا لا يستشعرون مدى سقم حالهم.

تخرج الأحداث إلى الكوخ الصفيح – في قصة " وليّ" – خارج تخوم المقابر حيث يتوقف الزمن وتتلاشى عنده معاني المحدودية . يتخطّى الوليّ العالم الواقعي ويصير كائنا أسطورياً تُروى عنه الأخبار لاسيما علاقته بالجن وقدراته الخفيّة. يكمن السحر في كلمته الوحيدة - " الليلة لكِ " - ليقع اختياره على إحدى العاهرات لتبيت معه في كوخه دون معرفة ما يفعلان سوى ما يُقال عن تغسيله النساء في" الطشت الذهبي المسحور من قصر سليمان تحت الماء " ومن ثمّ تخرج تائبة . لقد تمكن الوليّ من تغيير ملامح القرية بتناقص العاهرات وعودة الأزواج إلى بيوتهم، مما قوّض سلطات قريته: خطيب الجمعة وضابط النقطة والفتوات. تكمن ذروة الحبكة عند العثور على جثته " ملقاة في وسط الشارع الرئيس كان عارياً تماماً مقطوع العضو" ؛ فيرسم الكاتب ملامح القرية النفسية والاجتماعية؛ إذ كيف يحزن أهلوها عندما تتناقص الرذيلة ويفرحون عند موت الولي! . يظهر موتيف ( نذير الشؤم ) في قصة " حفرة " متمثلاً في منصور التُربي الذي يحفر قبور الموتى قبل أن يموتوا ، فاطلاعه على الغيبيات وعمله في حفر قبور أهل القرية وإخباره بمصير الأموات في القبور يجسّد الحقيقة عارية مما يورّطه في كثير من المشاكل حد الرغبة في قتله، يقول الراوي:" أصواتهم تتهمه بالسحر وقتل الناس وفضحهم ". على الرغم من الفكرة المعهودة عن ارتياح الإنسان النفسي للأولياء وأهل الغيب ممن تشفّ أرواحهم ولكن هنا يتبدّى خوف الإنسان الأزلي من الحقيقة لاسيما عندما يكون على خطأ ومناقضاً لفطرته النقيّة .

2-                ( ريشة / سيدي / ليلة / انتقام ):

تختلف الأربع قصص التالية إذ تأخذ شكلاً تجريبياً تقنياً ؛ فيجسّد صراع الإنسان من أجل الخلود سواء كإنسان بذاته أو عبر ذريته ممن يحملون اسمه في تحدٍ بوجه الزمن؛ لذا يتفاوت السرد إما تكون على لسان البطل بضمير المتكلم أو الراوي العليم أحياناً. تتداخل العصور السحيقة مع الحاضر في قصة "ريشة " ويتراجع الزمن حتى يصل إلى عصر البداءة؛ فالبطل يصلي في المسجد الذي كان مخبأ لمنقريوس من الرومان، وقبله مصلى حور محب للإله آمون رع  وكذلك محل صلاة البطل مع أفراد قبيلته لإله المطر. يكمن سر خلود هذا البطل في ريشة أنقذها أثناء إحراق الطائر الأخضر الأسطوري؛ فكلما بلغ السبعين من العمر يحرق البطل نفسه مع الريشة ويولد ابن الثلاثين . تقف في النهاية فكرة الخلود في مقابل الواقع الإنساني الحالك ووسط أوضاع تتزايد سوءاً وتتلاشى أمامها المعاني الإنسانية ، يقول: " تجري في عروقي دماء القرون السالفة بقوة حتى لأظن أنني سأتفتت، الصور تتدافع بجنون وسرعة لا أستطيع أن أميزها تثقل الذاكرة فتضغطني ". على الرغم من أن الريشة تأخذ شكلاً طوطمياً وعلامة مميزة لقبيلة البطل إلا أنّه مع الوقت تحولت من سلطة فوقية إلى معبر زمني أزلي يمسك الإنسان بزمامه حتى يتنازل عنه طواعية ، فالإنسان لا يستطيع تحمل ثقل الخلود وعبئه حتى وإن كانت طاقاته خارقة. في قصة " سيدي "، يسكن العفاريت ترعة المحمودية ويلقون بشجرة الجماجم الأسطورية في طريق سيدي الطاهر، فيحصل على قوة مسحوق الجماجم السحري. يتبدّى صراع الأجيال بين طاهر الجد ومحروس الحفيد على الزريبة التي بدأ يحرقها الحفيد ، وعليه يتحول الأمل في واقع يائس إلى رسم على الحائط يذوب فيه سيدي الطاهر مع المكان ويحوله إلى بطل أسطوري يستعين بـــdeus ex machina  أو المدد الغيبي من عالم الغيب ليطير مكملاً حياته؛ فبين القصتين يقدّم الكاتب مقارنة بين حياتين: الحياة من أجل الخلود من ناحية وفطرة الإنسان للبقاء من ناحية أخرى ، ولكن شتان بينهما.

تختلف قصة " ليلة " تقنياً لتعدد رواتها فهي قصة بوليفونية تعرض ثلاثة مستويات للمعرفة  تتكشف تدريجياً للوصول لسبب قتل العمدة لزهرة ثم تلبُّس زهرة لسميرة الغنيمي القبيحة حتى يتزوجها عبد الظاهر حبيب زهرة . فتبدأ الرواية من عبد الظاهر غبش إلى زهرة ذاتها ثم إلى سميرة والحجاب الذي عملته لها الشيخة نادية . تنضوي القصة على مفارقة أفق توقع القارئ لاسيما علاقة السحر والشعوذة بتغيير مسار حياة عوائل بأكملها استجابة لنزوات شخصية . تستأنف قصة " انتقام " أحداث القصة الماضية بعدما تعرّض عبد الظاهر غبش للظلم وتوارث الأحفاد الأحقاد والرغبة في الانتقام حتى تتحقق في مخيلة الجيل الأول من الأجداد، فالحفيد صورة من الجدّ والتاريخ يعيد نفسه والعائلة الطيبة تظل طيبة والشريرة تظل شريرة ، وهكذا تظل دورة الحياة في دورانها حتى تعود إلى نقطة البدء.

3-                (قصة / ثعبان / عروس ):

          يتمظهر التماهي بين الواقع والمتخيل في قصة " قصة " عبر المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني حين يقول الراوي:" أعترف أنني لا يمكن أن أحيط بتجربة حمدي شعلان في قصة خُطط لها ألا تزيد عن ثلاث صفحات لأسباب فنية "؛ كذلك الانتقال من الواقع إلى الحلم الذي يمثل القدرة الخارقة في البطل؛ فتتلاشى الحدود الحلمية ويصير الحلم متحكماً في الواقع والواقع ممتداً مع نهاية الحلم. ويتحول الحلم إلى وسيلة للحصول على النفوذ والسلطة حتى صار البطل يتحكم في الواقع عبر الأحلام لدرجة شعر أنه ليس بشراً . وهكذا جعل من نفسه أسطورة بل وأراد تفعيل دوره كإله نسبي أن يميت نفسه ثم يحييها داخل الأحلام ويكرر هذا أكثر من مرة. إنها رغبة الإنسان في تحدي قدراته البشرية المحدودة للوصول إلى الخلود ؛ ولكنه إنسان يخطئ ففي المرة الأخيرة لم يقدر على إنقاذ نفسه " وجدوه على سريره والإحساس بالفشل المزري واضح لكل ذي عينين، وهم يغسلونه كانوا يشعرون بأنه أكثر من شخص ، وأنه ما زال حيّاً في مكان ما ، وأنه ميت فعلا منذ أزمان كثيرة ". تتعانق قصة " ثعبان " مع مفتتح المتوالية عن تحول الشيطان إلى ثعبان في القصة هنا يخرج الثعبان بطن روحية للانتقام من أهل القرية في اليوم الذي يقول عنه الجد أنّه يوم الميلاد ؛ ومن ثمّ تظهر أسطورة المخلص الذي جسّده الحفيد في صراعه مع الثعبان ليقتله ويخلص أهل القرية من الآثام الممثلة في الأفاعي والثعابين التي تخرج من البيوت ولا يراها غيره فيقتل الثعبان وينتهي عمره معه، مقدماً نفسه تضحية للآخرين على عكس القصة التالية.

تختتم قصة " عروس " المتوالية لتلتقي مع الحكاية الشعبية "الشاطر حسن وست الحسن والجمال"، فالعروس رمز البراءة والطهر والجمال، ولكن حسد أهل القرية جعلها تسقط ليلة زفافها حتى صارت على شفى الموت يظهر دور الجدّة التي تعرف الأسرار وقد توقف عمرها لحظة وقوع العروس في انتظار أن يأتي حسن لها بالدواء. تكمن المفارقة أن لا أحد يريد التقدم ليغسلها بالماء المقروء عليه لأن لحظتها تنتهي حياته ؛ إنه إثم الحسد الذي كان سبب الصراع بين الشيطان وبني آدم منذ بدء الخليقة، وإثم الاستسلام وعدم الإقدام على التضحية، يقول الراوي:" كنت أتوكأ على حفيدي الذي يحاول أن يسرع بخطواتي الواهنة في أول زيارة له للتعريشة، وأنا أحكي له ما حكاه لي جدّ أبي ، وقفنا أمام العروس الراقدة في سريرها، نظرنا إلى الجدّة  صابحة التي لا تكفّ عن تقليب المياه بذراعها الأيمن والقراءة الخافتة "، حتى غدت حكاية تتداولها الأجيال . ختاماً، إن متوالية " حاوي عروس " تقدم أنموذجاً تجريبياً لتوظيف الأسطورة في القصة القصيرة لتظهر دورة ونمطية الحياة الإنسانية أحياناً كثيرة إلا من مفارقات خارقة عبر التدخل الغيبي أو الخرافي؛ وهنا يقف القارئ متسائلاً أ يحتاج المجتمع بطلاً أسطوريَاً كي يتغيّر أم أنّ زمن الأساطير قد انتهى وتبقى حياة الإنسان على المحك في مواجهة واقعه الذي يستلزم كثيراً من التضحيات .

دينا نبيل

الثلاثاء، 7 مايو 2013

The Most Dangerous Game … Humanity in a Trap!



The Most Dangerous GameHumanity in a Trap!
By
Dina Nabil

To "the Ship-Trap" island, Richard Connell takes the reader in a journey through his remarkable story "The Most Dangerous Game" to make a close spot over human psyche when it is transmuted from humanity to brutality. Connell creates a remote island to test slogans about basic human rights raised by the civilized world, the right of survival with dignity and freedom without being trapped by massive powers that could destroy the weak any moment. The story in itself is a trap for the reader, as a human being, since it provokes a critical question; what would a man do if he is away from the watching eye of cultivation?, would he behave according to ethics as a human being, or would turn into a beast resorting to the jungle law. In the fifth edition of his "On the Origin of Species", Charles Darwin uses Herbert Spencer's, a British philosopher, coined phrase "the survival of the fittest", which is not monopolized in biology, but as well as in morality. This phrase undermines moral standards by letting the strong's hand over the weak's neck, especially in societies that do not respect human rights; thus it produces two types of classes, if it ought to be said, predators and preys. The story focuses on the everlasting quarrel between the strong and the weak, including a person- against- person, a person- against – nature conflicts, or between two fighting desires within man himself. Therefore, the writer employs several devices, setting wise and character wise, to drag the reader's attention to his real identity away from the law; whether he is a human or a beast.

         As the story begins, two characters, big-game hunters, are introduced to represent two different forces, instinct and reason; which were wrongly thought to be separate, though they complement each other. Plato has long ago painted a picture of a Charioteer driving a chariot pulled by two winged horses. This allegory symbolizes the exact notion; the Charioteer is the human soul driving the two horses, one stands for reason and rational impulse, while the other embodies irrational passions and human instinct. In the story, Rainsford, the protagonist, represents reason and methodical way of thinking as it will appear later on. On the other side, Whitney stands for human intuition. Despite their differences, they complement each other, as Plato has stated; they are on the board of the same yacht going to the same direction, Rio de Janeiro. As the ship moves forward, the writer provides the reader with some clues to help him predicting the coming incidents to supply him with necessary pleasure and interest. While the yacht draws on in the Caribbean Sea, it passes through "the Ship-Trap" island, the narrative setting of the story, about which Whitney says:" A suggestive name. Isn't it?, sailors have a curious dread of the place. I don't know why. Some superstition-", but Rainsford could not see it due to the thick tropical night blackness, he says:" Ugh! It's like moist black velvet", and consequently, does not believe in such a thing. The writer arouses suspense around the island through the horror atmosphere dominating the first scene, not only through the silence and blackness, besides the difficult weather of the Caribbean, but also through the crew's instinctive fear, as Whitney says:" Didn't you notice that the crew's nerves seemed a bit jumpy today? … This place has an evil name among seafaring men, sir … Don't feel anything? - as if the air about us was actually poisonous." Nonetheless, Rainsford does not believe in this and thinks it is not more than pure imagination or superstition.
              Approaching in the Caribbean implies moving in darkness, and the island signifies its heart; the heart of darkness. This inspiration corresponds Joseph Conrad's great novel "Heart of Darkness", which not only does indicate the darkness of African jungles, but also the dark depths of human psyche and evil desires concealed beyond glamorous insincere declarations of civilization. Therefore, the dialogue between Rainsford and Whitney immediately twists to tackle the conception of hunting and human superiority, which grants them the right to play with animals regardless their instinctive fear.  Rainsford does not realize the danger of his speech:" The world is made up of two classes- the hunters and the huntees. Luckily, you and I are hunters", which foreshadows the dominant conflict in the story between the strong and the weak.
              As Whitney turns in the yacht, Rainsford gets startled by three gun shots, he starred at the direction of the sound but saw nothing. He moved quickly towards the rail and leaped on it, his pipe knocked out from his mouth, as he tried to fetch it, he lost balance and fell in the "blood-warm waters of the Caribbean Sea". Incidents get complicated as conflicts come to the scene; though Rainsford seemed from the exposition of the story as a strong self-controlling man, but now he loses his nerve control particularly after the yacht has raced until it vanishes. Rainsford became alone face to face with the sea, he called an 'enemy'. This 'a person-against-nature' conflict is the first embodiment of 'hunters verses huntees' conflict; nevertheless, Rainsford, this time, is ironically the prey, of the sea, the hunter, and its species. Not to mention, this conflict converts 'the blackness' from a seen force into a fighting tangible one which drowns and vacuums through various weapons, the salt water which made Rainsford gag and strangle, the heavy worm strong waves, and the rocky shore which may scatter whatever is pushed to it. Rainsford's attempts for survival never cease, even in his methodical approach, as it previously mentioned, reason and instinct cooperate to rescue the human soul; he looks for food by tracing track of shots, the crushed jungle weeds, a crimson patch, hunting boots prints and an empty cartridge.
              The writer uses horror devices; the night, opaque blackness, loneliness, gun shots, and screaming, side by side with Gothic atmosphere which appears in the only building on the island, the chateau; the "heart" is the chateau, of "darkness" i.e. the island. The chateau is designed according to the medieval architecture " with pointed towers plunging upward into the gloom", three sides of which are dived down into the sea. All features of civilization are found in the chateau, unlike the deserted island. This takes the reader to the difference between two similar journeys, here and in "Robinson Crusoe". The protagonist, in "Robinson Crusoe" moves from cultivation, England, to savagery, an anonymous island of cannibals, on the contrary, Rainsford in "The Most Dangerous Game" moves from civilization to much more civilization but black evil lies in deep depths of its inhabitants, General Zaroff and his servant Ivan, Cossacks from southern Russia. There are overlapped circles of blackness; Zaroff's blackness corresponds the blackness of the sea; his black eyes, thick eyebrows, dark face, and pointed military mustache are as "black as the night from which Rainsford had come". This similarity between Zaroff and the sea foretells the 'hunters verses huntees' conflict. General Zaroff recalls his memories about the sport of life, hunting; he hunted all types of animals around the world, but he got bored of it, for "the animal had nothing but his legs and his instinct. Instinct is no match for reason". Consequently, he had to create a new animal equal to him in reason and cognition; hence, he went through the most dangerous game, human beings hunting.
              Sadistic Zaroff seems like a god, to whom all powers yield, the black terrible sea that drives sailors' ships to the rocky shore so as to wreck their ships, Zaroff says:" razor edges crouch like a sea monster with wide-open jaws", and uses electricity to drag the sailors to his château. Even the island was perfect for his purpose, because "there are jungles with a maze of trails in them, hills, swaps-". Therefore, Zaroff represents the dilemma between civilization and brutality; what civilization really means, whether it is electricity, a massive castle, lavish dinner and captivating garments or the mid-Victorian Puritan thoughts about human respect. That is why; Zaroff is an archetype of the post-World War1 change of standards about everything, especially the quarrel between the strong and the weak.  Zaroff's sadistic lust has no limits; therefore, Rainsford is chosen as the next prey after naïve sailors have proved their failure as hunting satisfaction.
 For the second time, Rainsford becomes a huntee; he is given three nights to hide in the jungle and free himself unless the General finds him. At the first night, Rainsford made up a doubled trail to perplex the General and hid himself upon a lofty tree, but the expert Zaroff discovered his place; however, he did not wish to end the game so fast that he could save his prey for another day's sport. Suspense rises up more and more, as the protagonist's fear and instinct work hand in hand with his reason to surmount Zaroff's experience; thus Rainsford experiences the prey's fear, as he "lived a year in a minute". At the second night, Rainsford made up a tree trap, but Zaroff had only his shoulder harmed. At the last night, he made a trap beside the Death Swamp which caught one of the hounds, and killed Ivan by fixing his pointed knife in a tree. Rainsford is then trapped between two fighting motivations within himself, either to wait for his death in the jungle or escape by finally reaching the sea shore. It is easy to imagine how upset Zaroff is, after losing his sincere servant, Ivan and his quarry escaped him.
The climactic moment in the story is when Zaroff unexpectedly finds Rainsford at his bed room; though Zaroff proclaimed Rainsford's victory, Rainsford insisted on finishing the game as a beast this time. The musical chairs game or roles replacement appear at the falling out of the story, as Rainsford is now an actual hunter whereas Zaroff is a huntee who surrenders to his destiny as a repast to the hounds, while his opponent sleeps in his bed. It could be a little bit bewildering why the writer makes the story open-ended, as it is not easily presumed whether Rainsford learnt from this experience or not. However, after his taste of fear as a prey he could cease hunting or at least does it with respect. At last, roles replacement, in the conclusion of the story, does not mean that Rainsford became another Zaroff, but it is a means to put things in the right place. Rainsford puts an end to brutality and abuse even though by killing; that is because, some solutions must be as cruel as the wrong doing itself to end the whole matter.

Dina Nabil                                                          

الأحد، 21 أبريل 2013

The Monkey's Paw... a Scheme of Suspense


The Monkey's Paw... a Scheme of Suspense


By

Dina Nabil





      "Checkmate!", and the game was over; by this situation W. W. Jacobs starts his story The Monkey's Paw to proclaim the inescapable eternal game between man and fate. The writer presents the dilemma between man and fate through a thread of conflicts, external and internal, through out the three parts comprising the story. The rhythm of incidents rises up to provoke the tone of suspense with every single detail. This story, for sure, is not the only one written on the three wishes theme, as it is frequently repeated in folk tales, particularly in the so-called Aladdin and the Magical Lamp in The Arabian Nights. However, despite the familiarity of the theme pattern, suspense does not let go this literary work.



      The story begins introducing a Gothic atmosphere, as initial incidents take place at a cold wet night in Laburnam Villa, an isolated area with deserted torrent roads. The Whites were gathering beside fire; the mother knitting and son and father playing chess. These two motifs, kitting and chess, are considered primary clues which would mirror the story's outcome. Chess is a play of life and death; one survives while the other does not. Knitting on the other hand, is closely attached to the cycle of life; not to mention it is derived from the Greek mythology of The Three Fates kitting and weaving, which is fertile to many epics such as The Odyssey and many other literary works. Though it is easy to predict what the story would tackle, interest is aroused by the arrival of Sergeant Major Morris, who has just arrived from India. Morris starts recalling "strange scenes and doughty deeds of wars and plagues and strange peoples". Nevertheless, it could be anticipated that something more interesting than this is going to be narrated; as India itself is a country of mystery, legends and magic.



      The narrative hook which catches hold with the reader's eagerness is in the following sentence by the old Mr. White:" What was that you started telling me the other day about a monkey's paw or something, Morris?". Not only is the characters' curiosity touched, but the reader's as well in several audible and visual methods: the weird name of the talisman, its mysterious looking as a dried mummy, Morris takes the paw out of his pocket, narrating miserable stories around it and uttering its function crystal clear:" It is a spell put on it by an old fakir who wanted to show that fate ruled people's lives, and that those who interfered with it did so to their sorrow". This sentence is the core of the story, as it is formerly implied in the knitting and chess scene; moreover, it foretells the dominant conflict in the story, between man and fate. The first external conflict, person-against-person, starts as Morris intended to throw the talisman in fire to get rid of its danger; however, Mr. White snatches it from fire. The rhythm of incidents beats loudly because Mr. White does not listen to Morris' warnings about the talisman; in addition, he asks about the way of wishing. At this point complication rises steadily as Morris gives his last advice to Mr. White before his departure:" Wish for something sensible".



      By Morris' departure, the narrative line never ceases moving on, though a general sense of motionless suspense controls both the reader as well as the Whites who were busy thinking of the talisman's abilities. Mr. White's internal conflict occurs between what to desire for and the curiosity of testing the talisman, because he does not know what to wish for, as he seems not needing anything, adding to this, his wife and son Herbert doubt the possibility of any wish to be obtained. Then Mr. White, from a motive of curiosity, utters the first wish, which is normally about money, as in most of three wishes theme tales. The writer is an expert in devices creating the horror atmosphere around the wishes; suddenly after wishing for two hundred pounds, atmosphere changes: the higher wind, the banging sound of the door upstairs and the sudden unusual silence, as the talisman twists in Mr. White's hand like a snake. The usage of this imagery, " talisman twists like a snake ", is an important clue about the identity of the talisman which has several literary allusions. In biblical perception, snake is a symbol of temptation and deception; in Adam and Eve's story, Satan transfers into a snake and tempts them to eat from the Forbidden Tree. Their yield to temptation led them to be kicked out from Paradise, and then the human misery consequently. Moreover, in Jesus' story of the forty days test, Satan appears like a snake in attempt to tempt Jesus with three wishes of making him a king, but Jesus rejected that, and thus rescued himself from misery. Therefore, the talisman stands for deception, temptation and a test of inevitable consequences. The first part of the story ends up with Mrs. White and Herbert mocking the talisman's ability of accomplishing any wish, assuming that money would drop from the sky or be found in the middle of bed and then his father would turn out to be a mean person and they would disown him.



           Incidents get more complicated in the second part, as the talisman's function comes to an action; Mrs. White watches mysterious movements from a strange man delivering bad news about their son Herbert who was badly injured to death after being caught in the machinery. Mr. and Mrs. White were in a great surprise, when the two hundred pounds are presented for them as a compensation of their son's death. At this point, the monkey's paw turns out to be the major representative of a person-against-fate conflict of unexpected and dissatisfying consequences, as fate is not to be played with nor be examined. Therefore; it is concluded that the previous mistakes of Mr. White's play in chess parallel mistakes he makes wishing on the paw. What is so ironic about the first wish is that fate chooses the youngest of the Whites for death, leaving his parents lamenting his loss forever, thus sometimes children carry the burden of their parents' mistakes. The writer here drew from numerous widely known sources to renovate typical themes and provide the reader with necessary inspiration; this theme of a savior who carries the others' burden is another literary allusion derived from a biblical source of the holy trinity, Father, Son and Sacred Soul. Jesus Christ, the Son, carries the burden of human sins, though he is innocent of them; likewise, Herbert, the son, carries his father's wrong doing by challenging fate. Then the talisman does not seem to be the cause of calamities, but becomes a means of lifting them up by reversing the first wish; as a result of that, Mrs. White hysterically searches for the paw to bring her son back to life; in other words, to change fate one more time.

                               

      The third part presents varieties of transformations character wise; this technique adds to suspense because conflicts are switched, the supporter becomes an antagonist and vice versa. Mrs. White's objecting attitude against the talisman becomes an ultimate belief in it, while Mr. White plays the role of the doubter who sees the talisman's abilities as some sort of coincidence. The interpretation of attitude transformation is centered on not believing in fate and God's choices for man, though it appears in the sense of fear from the injured dead Herbert if he comes back to life. The second horrifying transformation is the one happened to Herbert; by accomplishing the second wish, the playful lighthearted Herbert, the only working member of the Whites, is transformed into a horrifying corpse or a ghost brought back to life. The scary atmosphere which accompanies the second wish; a high wind, abrupt silence and repetitive knocks on the door, increases suspense though it is predictable what the third wish is going to be.  Excitement never lets go incidents especially in what may be called a race between Mr. and Mrs. White; he wants to reach the paw to wish his last wish of not letting their son's corpse enter the house, while Mrs. White rushes to open the door for her son. This situation is the climactic moment, as two sorts of conflicts are bowed together; a person-against-person conflict between Mr. and Mrs. White as asserted before, and a man-against-fate conflict, as Mr. White's word is against allowing their son's corpse to come back to life. The last wish is uttered though it is not mentioned literally but could be easily identified. The rhythm of incidents falls down as the knockings cease suddenly and a cold wind rushes up the staircase. The story is concluded as Mrs. White utters a wail of disappointment and misery as "the street lamp shone on a quiet and deserted road".   



      Finally, The Monkey's Paw is a Gothic short story in which W. W. Jacobs makes the best use of widely world known allusions to state a theme of a paramount importance; man against fate. The theme of the three wishes is one of the crucial allusions especially because it is associated with ancient tales and mythology, thus it bounds man with his ancestors to present the eternal dilemma of all times. The writer made a good use of gothic stories devices to enhance suspense in the story though its outcome could be predictable from the first lines. The Whites, not only does their surname stand for human innocence and primitive ignorance against massive powers, but they also represent an archetype of human curiosity though not greed, in contrast with mysterious dungeons of the unknown.       


Dina Nabil

الثلاثاء، 9 أبريل 2013

رسالة بحر -- قصة قصيرة



رسالةُ بحر




" إليكَ ..   .. تركتني   ..  ..  تهشّم مركبي  ... ... ، لمَ ..   .. ؟
أنتَ يا  .. ..  ..  أمواج ..  .. تتقاذفُني .. ... !
عُد إليّ ..   .. نخرَ البردُ عظمي  .. أصابني الصممُ ، عـــــ .. ..  !
إن لم تعُد ..  .. فأنتَ .. .. !!!
... ...
...  يا من تجدُ رسالتي فقد وجدتني .. ..
أرسل .. ....  نجدةً ، اطلُبـــــــ ..   .. ... ...
المُخلص
.. ..  البحر "
أمسكتُها من حوافّها شبهِ الذائبة ووضعتُها أمامى على الرمال كي تجّف ، صحيح أنها كانت داخل زجاجةٍ مغلقةٍ استغرقت مني ساعتين لفتحِها، ولكنّ بحرَ الشتاءِ المتلاطم ، والماءَ القارس ربّما نفذَ إليها.
رسالةٌ غريبةٌ يلفظُها البحرُ بقوةٍ فتصطدِم بوجهي، كما لو كان يضيقُ بها ذرعاً ، وكلّت أمواجُه عن حملِها وحملِ عبءِ ما فيها.
ما العملُ الآن ؟!
من " البحر" هذا ؟
أعرفُ أنّ كثيراً من أهلِ الإسكندرية يُلقبون أولادَهم بـــ " البحر " تيمناً به وطمعاً في طولِ الأجل، فمنَ المؤكدِ أنّ هذا لقبٌ لعائلةٍ هنا ، ولكن أيّهم يكون والمدينةُ بهم ملأى؟
حملتُها بعد أن جفّت تقريباً فلم يعُد الهواءُ الباردُ محتملاً ، أدخلتُها في سترتي خشيةَ أن يُصيبَها الرذاذُ المتطايرُ .. هل من الممكنِ أن تكونَ حياةُ إنسانٍ مرهونةً بتلكَ الورقةِ ؟! .
لم أدرِ أينَ أذهبُ بها .. ؟! .
 لوهلةٍ تذكرتُ قسمَ الشّرطةِ لكنني أحجمتُ خوفاً من عواقبَ لا تُحتمل ، أسرعتُ نحو عمّالِ الشاطئ أعرضُ عليهم الورقةَ لكنّ أحداً لم يُصدقني .. كيف يكتبُ إنسانٌ ورقةً وهو في عرضِ البحرِ؟ .. حتّى وإن حدث هذا ، فكيفَ تصمدُ زجاجةٌ ضعيفةٌ أمام الصخورِ والأمواجِ العاتية ؟ .. ولم تُحطمها إحدى ضواري البحرِ التي تستغلُ هياجَه لترتعَ بحُريّة .
خرجتُ إلى الشارعِ .. لابدّ أن أتصرفَ ، فالرجلُ يموتُ .
لم يأبه أحدٌ ليدي الممدودة ، أعطاني أحدُهم جنيهاً ومضى دونَ النظر إلى وجهي! .. وآخرُ يقولُ لي " الله يسهل لك! " ، جريتُ وراءه ، جذبتُه .. " ثمّة رجلٍ يموتُ في عرضِ البحرِ وأرسلَ رسالةً يستغيثُ " ، نظرَ إليها نظرةً خاطفةً ، وتأمّلني قليلاً في صمتٍ ثم رحل .
ذهبتُ إلى محطةِ الحافلاتِ .. مُكتظة كالعادة بكتلٍ متلاحمةٍ اتقاءَ المطرَ والصقيعَ ، صرختُ بأعلى صوتي .. "  ساعدُوني ! .. هناكَ رجلٌ يغرقُ في عرض البحر! ".
 انتبهوا إليّ من فورهم، فما إن أخرجتُ لهم الرسالةَ حتى بدأوا بالتهكمِ والضحكِ ، وعندما لاحت الحافلةُ من بعيدٍ .. تدافعتني أمواجُ اللحمِ ولفظتني خارجَ تيارها .
سقطتُ على الأرض .. لا شيء أشدّ إيلاماً من الارتطامِ برصيفٍ خرساني متجمدٍ يبعث ذبذباتِه الكهربائيةَ في خلاياي ليصيبني بالخدر . لملمتُ أطرافي وشددتُ سُترتي عليّ مقاوماً هواء يَخِزُ عظامي .
لم يكُن هناك من يكترثُ لندائي.
لم يعُد هناك أحدٌ من البشرِ .. وحدُها مظلاتٌ ملونةٌ براقةٌ ، نبتت لها أرجلٌ طويلةٌ تعدو هنا وهناك ، وسياراتٌ ترشرشُ نوافيرَ وتطلقُ نفيراً يتابعُ أصداءَ الرعدِ الذي بدأَ منذُ قليل.
توجهتُ مجدداً نحو الشّاطئ .. كان خالياً من كلّ شيءٍ عدا أعشاشٍ متناثرةٍ تستندُ إليها بعضُ قواربِ الصّيدِ القديمة .. أخذتُ أقلبها .. أغلبُها هزيلٌ متفسخٌ ، ولكنني تخيرتُ أفضلَها حالاً ، ورحتُ أسحبُه على الرمال .
الرمالُ بيضاءُ صلبةٌ ، والقاربُ فوقها يخطّ خطاً طويلاً عميقاً لم يلبث أن امتلأ بماءِ السّيول .. حتى انتهيتُ إلى البحر .. لابدّ من الإسراع ، فالرجلُ يموت!
لا تخفْ شيئاً يا " بحر" .. أو أياً كان اسمك .. أنا آتٍ إليك!
البحرُ هائجٌ .. تتلاحقُ الأمواجُ بعنفٍ يلتهمُ بعضُها بعضاً .. تنتفخُ وتتعملقُ ثم تتكسرُ على حافةِ الشّاطئ .
الشّاطئُ يتضاءلُ .. يتآكلُ .. والبحرُ يزحفُ نحوي .. تزحفُ ألسنتُه الباردةُ تلعقُ قدميّ .. تطوّقُهما .. تتلقفُ قاربي، تشدّه وتحملُه على أكفّها إلى مائها الرمادي الحالك .
ثوانٍ وعادَ وميضُ السماءِ على حين غرةٍ يخطفُ بصري، أعقبه هزيمٌ أحسستُ له رجرجةً في البحرِ .. والبحرُ من تحتي يفورُ ويهدرُ مُزمجراً . اهتزّ الأفقُ البعيدُ .. رويداً يتلاشى الحدُّ الفاصلُ بين السماء والبحر.. ينبضُ .. يتنفسُ ، ويبتلعُ الاثنين معاً ..
راحت عيناي تدوران في الأرجاءِ علّني أعثر على صاحبِ الرسالة .. ناديتُ .. " يا بحر .. أين أنت ؟! " .. السماءُ والبحرُ يتبادلان الشهيقَ والزفيرَ، يشتتان ندائي .. والهواءُ يأبى إلا أن يمزّقَ صوتي .. يبدّده .. فلم أتمكن من سماعِ صوتي !.
الأمواجُ تدفعُ بقاربي ، القاربُ ينتفخ إثر تسرب الماء إليه .. غدا أثقلَ ، معبأً بالماء والطحالب .. ملابسي التصقت عليّ وتملكني وخزٌ ينشرُ جسدي .. أخذت ألفُّ حول نفسي كإبرة بوصلةٍ هائمةٍ ، حسبتُ نفسي أسبحُ فوق مصفاةِ الكونِ العظمى أدورُ وسط دوامةٍ لشفط ماءَ البحر بأكمله ..
عندها سلّمتُ أنّه لا وجودَ للمدعو " البحر " .. ويجب عليّ الخروجُ من تلك الدوامة .
ولكن تراءى لي طوافٌ خشبيٌ هزيلٌ ، ووصلَ إلى سمعي صوتٌ متكسرٌ يبدأُ عالياً ثم يذوبُ بعيداً ربّما هي كلمة " النجدة " أو كما خُيّل إليّ .
لم أنتبه لقممِ الموجِ المتصاعدةِ على المدى .. أمواج ذاتَ بطونٍ .. مغاراتٍ .. زرقاءَ حالكةٍ .. سوداءَ .. يصهلُ زبدُها كخيلٍ بيضٍ فائرةٍ تهبطُ مسرعةً نحوي تصلصلُ في معركةٍ لن تكتبَ قطّ .. القممُ تتعملقُ .. تصنعُ رأساً ينفخُني .. ثم ما يلبثُ يسحبُني حتى كاد يبتلعني بطنُه .. تلفّتُ حولي لم أجد الطواف .. ولم أجد بحر !
صرختُ بكل ما بقي في من قوّة .. " أين أنت يا " بحر".. ! "
....
بينما البحر يلفني من كل جانب !.
_________
دينا نبيل عبد الرحمن
الإسكندرية
15/1/2013

رحلة غرائبية على متن " الفيل الأزرق "



رحلة غرائبية على متن " الفيل الأزرق "




" تطلّب الأمر مني لحظات لأستوعب القبر الذي دفنت فيه، أتنفس أنفاسي المستهلكة وأحاول الاعتدال فلا أستطيع ، يبدو أن الفيل قد جلس فوقي .. عيناي في مواجهة الشمس، فتحتها بصعوبة فسالت منها دموع وزبد أبيض وصديد، لحظات وبدأت أميّز معالم رجل عملاق يقف فوقي ، يرتدي سروالاً بنيّاً يصل لركبتيه، قابضاً بكفيه على عصاة غليظة ويحيط برأسه قفص حديدي صدئ!! ، رأيت صورهم من قبل في كتب تاريخ الطب، كانوا يحتمون بالأقفاص كخوذ تقيهم بطش المجانين .. أمثالي .. أنا في مستشفى! .. مستشفى أمراض عقلية ! في وقت ما ! "
رواية " الفيل الأزرق" للكاتب أحمد مراد، هي الرواية الثالثة له بعد روايتيّ " فيرتيجو" و" تراب الماس"، والروايات الثلاث يشتركن في طابعهن البوليسي وموضوعة الجريمة وفكّ الألغاز، إلا أنّ رواية " الفيل الأزرق" تأخذ وجهة مغايرة عمّا كتبه الكاتب من قبل، ألا وهو البعد الغرائبي. والغرائبية أسلوب تخييلي يعمد فيه المؤلف إلى معاينة الواقع بعين جديدة تنسج عوالم سحرية غريبة مفارقة للعقل داخل عالم النص الواقعي، ومن ثمّ تحتفي بالمكان والرمز وتغرق في التهويمات مستعينة بانزياحات اللغة وإيحاءاتها وتقنياتها العالية لاختراق المألوف والخروج من المحدود للغوص إلى أغوار الروح، مما يقدّم مستوىً فكريّاً أكثر عمقاً ورصانةً.

·تجربة الاقتراب من الموت :

لم يظهر " قرص الفيل الأزرق " – " تذكرة لعالم البرزخ رايح جاي " – إلا قرب منتصف الرواية إلا أنه برحلاته الثلاث كان الأكثر هيمنة على السرد والأشد جذباً لترقب المتلقي الذي يرى بعيني السارد تجربة فريدة من نوعها. تتلخص تجربة الاقتراب من الموت في كونها عملية انفصال "مؤقت" تنفصل فيه الروح عن الجسد مما يمكّن الروح من أن ترى نوعاً من الرؤى والمشاهد الروحانية لجوانب من العالم الآخر ولكن نظراً لغياب الأدلة العلمية على تلك الفرضية، يشكك كثير من العلماء في صحتها ولا يعدّونها أكثر من مجرد هلوسة أو أضعاث أحلام. ولا شك فإن وصف الكاتب الدقيق لتلك التجربة بغرائبيتها يثير في ذهن المتلقي تساؤلاً عن مدى صدق تلك التجربة لاسيما وأن بطلها طبيب نفساني ذو تفكير علمي بحت وافتراضات تخضع للمعيار والقياس.
الرؤى ليست محض أحلام دلالية تعكس لاوعي البطل السارد إزاء واقعه، ولا هي مقاطع سردية منفصلة عن الأحداث وإنما هي أحداث فرعية مضفّرة بحنكة تجسّد مشهدية حية عجائبية لخبرات السارد الماضية والمستقبلية، التي يتلقفها البطل من الكتب والجرائد والشخوص المحيطة. والرؤى لا تفرغ فحواها مباشرة وإنما هي بين مد وجزر؛ لا تفتر أن تنتهي واحدة حتى تلاحقها التالية بمعلومات مكملّة، يستعين بها يحيى – البطل السارد - في سد فراغات قضية " شريف الكردي " الطبيب النفساني وصديقه المتهم بقتل زوجته " بسمة " والمريض بالفصام أو "السكيزوفرينيا" على حدّ التشخيص العام لحالته. الرؤية الأولى تنصبّ على تصوير مشهد بسمة عند النافذة قبيل إلقاء شريف لها، يقول يحيى: " الغرفة ازدادت وسعاً كملعب كرة بلا مدرجات! يجب أن أفيق .. لا أستطيع أن أراه وهو يلقيها .. كلما اقترب شريف منها صارت الغرفة أكثر زرقة .. قدماي تنهاران من تحتي .. بسمة تنظر إلى .. تستغيث "، بينما الرؤية الثانية رحلة إلى بيت المأمون – المذكورة قصته في كتاب الجبرتي وقصة مس الجن له وحمل زوجته من الجنيّ ، تسهم في فكّ شفرة الوشم على فخذ " بسمة " والذي يصادف تشابهه مع وشم مثيل تدّقه عجوز على فخذ زوجة المأمون " سيدة الدار"، تقول سيدة الوشم: "رسمة الوردة لازم تبات في جلدك اتنين وسبعين يوم لغاية ما ينفك سحرك"، ثم يأتي حلّ العقدة الأخيرة من اللغز عند دخول يحيى في جسد المأمون حتى تتبلور القضية كاملة، يقول سيد الخياط : " منها لله الجاهلة اللي دقّت الطلسم على حريمك ..جلبت لها نايل لعنة الله عليه.. نكاح سفلي والعياذ بالله .. يشم الطلسم .. يحضر ويغيبك كما النايم.. تروح أنت ويحلّ هو يلف نفسه عليك.. وتصحا في يوم تلاقي كل شيء اتبدل وراح ". إن الرحلات الثلاث محاطة بحدث مبتور وهو زيارة " يحيى " لــ " ديجا " صاحبة محل الوشم؛ ليعود بعد الرحلة الثالثة إليها مجدداً محمّلاً بمعلومات اكتسبها من رؤياه الأخيرة ، فيواجهها بشأن الطلسم والسحر، ثم يصب التهمة عليها ويكتشف أنها سيدة الوشم، وتسببها في انتقال الجنيّ لــ" شريف " وحمل " بسمة " من الجني لتتكرر قصة المأمون وسيدة الدار. ومن هنا، يتمكن يحيى من فك السحر وتخليص شريف من مس الجنّ. وهنا يقف القارئ حائراً هل تجربة الاقتراب من الموت مصدر حقيقي لاستقاء الخبرات ومكاشفة عالم الحقيقة بعيداً عن تلوث الماديات؟ ، وهل الأمر بسهولة نسبة المشكلة برمّتها إلى السحر والجن كي يكون الحل في محض ورقة صغيرة يرفعها يحيى في وجه شريف أو الاحتماء بقميص ذي أرقام؟.

·جمالية الغرائبية :

تشترك رؤى تلك التجربة في سمة " تشكُّل الصور وتحوّلها " والتي هي إحدى سمات العالم الغرائبي في عالم " ألف ليلة وليلة " مما يحيل المتلقي إلى فلسفة الأشياء وما وراء المادة مما يضيف إليها حياةً وروحاً فتتنفس وتنبض بعد أن كانت جماداً، يقول: وشم على شكل كلمات .. لا أرقام! أحد عشر رقماً مكتوباً بحبر غير ثابت ما إن لمستها بأناملي حتى استحالت حشرات صغيرة وانسلّت من بين أصابع قدميها لتتوه في العشب الأخضر الذي كان قديماً سجادة " ، فالأشياء تتبدل وتتحول تلقائياً أو بالملامسة ، يقول:" الطفل كان عارياً مستلقياً على ظهره.. لكن ذراع المسكين كانت تحمل وحمة دموية حمراء عكرت صفو نقائها .. لامستها تحركت كأنها زئبق يتلوى، وضعت أناملي ثانية فوقها فتحركت تجاه أصبعي كبرادة حديد.. الكيان يتخذ طريقه تجاه ظفري .. ميزت أرجل دقيقة تخرج من جسم بغيض " ، وفي الرحلة الثالثة كان تحوّل سيدة الدار إلى " لبنى " – حبيبة يحيى، ويحيى إلى شخصية المأمون، وبروز شجرة الكافور المقطوعة في صالة شقته، وتبدّل الغرف وكل غرفة تنفتح على عالم مختلف ، فإن تلك التحولات الغرائبية وما لها من بعد جمالي لا يخطئه قارئ، تفيد في نقل الخبرة وتأملاتها الحادة في مكاشفة معاناة البطل السارد. ويحتفي الكاتب بعنصر " المكان " ويعتنى به أيّما اعتناء بعدسته التصويرية الناقلة لأدق التفاصيل؛ فهو ليس مكاناً جامداً وإنما ينبض ويتعملق في كل مرحلة؛ يبدأ من مكان جغرافي داخلي محدود ثم ينطلق في بحبوحة المطلق واللامحدود ليطرح جدلية النسبي والمطلق، وضآلة الإنسان في احتمائه بالجدران واختراق الحوادث عالمه الضيق وهو التجسيد الصادق لحال يحيى يقول: " اللعنة على الباب الذي انفتح على حياتي المستقرة الهادئة الميتة بخشوع ناسك بوذي أبكم أطرش أعمى، كم أكره التغيير!!" فتبدو الثنائية بأضدادها ( البيت واللابيت ) الأشياء المتمايزة المألوفة في مقابل الأشياء الغرائبية حيث تناقص ملامح الهوية وبعد الألفة وزيادة الشعور بالاغتراب.

·الغرائبية والاغتراب :

إن الجو الغرائبي الذي ينسجه الكاتب في الرواية بإحكام إلى حدّ يجعل المتلقي مصدقاً في كثير من قضاياها الغرائبية: تجربة الاقتراب من الموت أو نكاح الإنس والجن، لاسيما وأن الرواية على لسان البطل السارد بضمير المتكلم وهو طبيب نفسي يعرف أعراض الأمراض النفسية ولم يتوان عن مدّ المتلقي بها من حين لآخر، فالقارئ يتوقف أكثر من مرة أمام الأحداث متسائلاً عن مدى صحتها من خطئها ولكن لا يتمالك نفسه أمام عنصر الجذب واعتماد الكاتب ذاته على حيلة نفسانية بأن يقدّم خيارات محددة أمام القارئ وعليه أن يختار بينها ولا مجال للتفكير، فإما أنّ شريف مريض أو محتال أو ممسوس، وبسمة إما خائنة أو ضحية مرض زوجها أو منتحرة، ويحيى إما سليم أو مريض.
إن الرؤية الأخيرة في الاقتباس الذي جاء في صدر هذا المقال والذي يفزع فيه يحيى إثر الزجّ به في مستشفى للأمراض العقلية، يحاول القارئ الربط بينه وبين نقطة تحول كبيرة في الرواية وهي احتمالية إصابة يحيى نفسه بالفصام وأن أغلب أحداث الرواية لم تكن سوى ضلالات وهلاوس في عقل يحيى وحده، وهناك أدلة كثيرة يمكن تلمسها على هذا الافتراض؛ فهو الشاهد الوحيد لما يدعوه بحالة "ازدواجية" شريف وانشطاره لشخصين مختلفين، أحدهما والذي يفسّره في الأخير أنه جنّي يعرف كل تفاصيل حياته بل ويصارحه برؤاه أثناء تعاطي قرص الفيل الأزرق، وهنا يقف القارئ متأملاً قول د. كيلاني " آخر واحد بيعرف إنه عيان هو المريض نفسه " وتصريح شريف ذاته بمرض يحيى بالفصام وإثبات ذلك عبر المسجل الفارغ  والمكالمات التي ينسجها خياله في مقابل نفي يحيى فكرة مرضه على لسان شطر شريف المتخيل. لسنا هنا بإزاء تحليل لأسباب يحيى المرضية إذ أن هذا الفرض لا يتعدى كونه إحدى مستويات الدلالة التي تطرحها الرواية، إلا أنّ التعرف على خلفية البطل النفسية تسهم في تفسير استعانة الكاتب بالبعد الغرائبي في السرد؛ لذا فتجاوز القراءة الانطباعية المستهلكة تستنطق النص لتكشف المضمر خلف الأبعاد الدرامية المخاتلة. فعقدة الذنب التي صارت تهاجم يحيى في شكل " الكلب الأسود " بشأن تسببه في قتل زوجته وابنته ومن بعدهما مايا عشيقته وتعاطيه الحشيش وإدمان الكحول واعتزال العمل والخلطة لمدة خمس سنوات ثم العودة لمعترك الحياة مجدداً ليبدأ الماضي بمهاجمته؛ جعلته يهرب من واقعه النفسي والاجتماعي عبر شعوره بالاضطهاد المرضي من كل من حوله، ثم محاولة إثبات ذاته أمام حبيبته القديمة " لبنى " كي يبدو أنه الشخص الوحيد الذي كان يستحقها، وإن كان من خلال تخبّطه في التأويلات اللاعقلانية ورحلاته الغرائبية .

 ومن ثمّ تتبدّى العلاقة بين حالة الاغتراب النفسي الذي يعيشه البطل وأسلوب الغرائبية الذي استعان به الكاتب وكان موفقاً في نقل تجربة يحيى بخصوصياتها ومصداقيتها العالية على لسانه. فالكاتب المعاصر لم يعد قادراً على تصوير سلسلة العذابات الإنسانية ومعاناة الإنسان في عالمه الواقعي المعقد بأدواته التقليدية، فكان البعد الغرائبي ليوظّف الخيال في اختراق سكون السطح الواقعي. وإن كانت نهاية الرواية تنتهي ببساطة على كونه مجرد حلم يستيقظ منه البطل ليجد الأمور قد تبدلت بانتهاء مشاكله وعودته للعمل والزواج من " لبنى"، فهل الحياة بسهولة الأماني الوردية أم هي إحدى هلاوساته الجديدة للهروب؟. وهكذا يترك الكاتب النهاية مفتوحة للقارئ يؤولها وفق فهمه للرواية، فهي ليست رواية تقدم إجابات سائغة وإنما رواية أسئلة ومفاتيح كل منها يردّ ويهدم ما قبله من افتراضات وهذا تجريب موفق يضيف إلى رصيد الكاتب.

دينا نبيل عبد الرحمن

الأسطورة في " آخر المستحمات في حمام زبيدة " - حامد فاضل



الأسطورة في  "آخر المستحمات في حمام زبيدة "
للقاصّ العراقي / حامد فاضل


مقدمة:

يعد التراث العربي مادة خصبة بالدرجة الأولى في توليد الإبداع الأدبي ، فالتراث هو الموروث الماضي وفي نفس الوقت ، الحاضر على عديد من المستويات ، وهو الهوية الثقافية لأية أمّة والتي بدونها تضمحل وتنهار. ولما كانت الأسطورة هي ( سرد قصصي مشوّه للأحداث التاريخية التي تعمد إليه المخيلة الشعبية ، فتبتدع الحكايات الدينية والقومية والفلسفية لتثير بها انتباه الجمهور ، وتعتمد الأسطورة عادة تقاليد العامة وأحاديثهم وحكاياتهم)[1] فإنها بذلك تكون جزءاً لا يتجزأ من التراث ، وهي لا تعني مجتمعاً دون آخر ، بل هي ( تراث اشتراك لا تراث حكر ، فلا يوجد شعب يزعم أن التعبير الاستعاري عنده لا مثيل له لدى الشعوب الأخرى)[2] ، وذلك لأن ( المجتمعات تميل إلى التشابه والتماثل في النظام الأدبي ، لأن هذا النظام هو عرف اجتماعي ونفسي ومزاجي مهما كانت المجتمعات والنفوس والأمزجة متباينة ومختلفة)[3] ، ومن ثمّ فالأسطورة لا تنتمي إلى زمان أو مكان بعينه . وتتميز الأسطورة بميزة لا توجد في سواها من الصنوف التراثية ألا وهي تأثر الناس بها واعتقادهم فيها إلى حد ما  - بشكل " لا شعوري " - رغم التطور العلمي ، فلا يزال لها هذا السحر الذي يجذب إليه القراء فضلا عن الكتّاب . ولما كانت الأسطورة في الزمن السحيق ( عبارة عن مواجهة الجسد لمظاهر الطبيعة والكون)[4] لينشئ نوعاً من الانسجام بين الإنسان والطبيعة ، إلا أنّ الأديب المعاصر كثيرا ما يلجأ لها لكي ينخلق ( تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية  ، و..الربط بين : أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين :الماضي والحاضر، والتوحيد بين : التجربة الذاتية والتجربة الجماعية .. ، وتفتح آفاقها لقبول ألوان عميقة من القوى المتصارعة ، والتنويع في أشكال التركيب والبناء)[5] ، فكثيراً ما استخدمت الأسطورة لعكس الواقع العربي السياسي والاجتماعي ومآل الأمة العربية سواء بتجسيد الآمال أو محاولة الهروب من ذلك الواقع المرير أو الرغبة في استعادة الماضي بأصالته ومجده متجسداً في شكل أسطوري .

وفي ( آخر المستحمات في حمام زبيدة ) للقاص العراقي حامد فاضل ، يتجلى استخدام الرموز الأسطورية العربية وتوظيفها بشكل جديد معاصر ؛ فـقام بــ (استدعاء نصوص من هذا التراث [العربي] وبثها بين تضاعيف السرد دونما محاكاة لأنماط السرد التراثية أو لتقاليد السرد التراثي)[6] ، وقد أجاد الكاتب في ذلك خاصة أنه أضاف إلى هذه الرموز تلك الرمزية التي تفتح باب التأويل والقراءات المتعددة على مصراعيه من أجل توصيل رسائل عدة .
وفي هذا المقال يتم معالجة المحاور التي تمظهرت فيها الأسطورة  .

المحاور :
1-             تجليات في أسطورة هارون الرشيد
2-             رمز الغزالة العربية
3-             الصحراء كفضاء أسطوري

1-                تجليات في أسطورة هارون الرشيد و" حمام زبيدة " :

ينظر إلى هارون الرشيد كشخصية تاريخية من الدرجة الأولى بحكم كونه أحد الخلفاء العباسيين والذي يعرف عصره بالعصر الذهبي ، إلا أنّ هذه الشخصية تميزت ببعد أشبه بالأسطوري إلى حد كبير خاصة لاقتران اسمه بقصص " ألف ليلة وليلة "، فــ ( أحاط بعض رواة الليالي شخصيّة الخليفة الرشيد بهالة قدسيّة وأسطوريّة ، وبسلطة مطلقة تمتدّ إلى فضاءات الدولة العباسيّة كلّها .. مثل ما ذكر في حكاية " غانم بن أيوب وقوت القلوب "... أو  في حكاية " علي نور الدين وأنيس الجليس ")[7] ، فيلازم ذكره كحاكم عشقه للندماء والسكر والغناء والنساء.
 وسواء أكان هذا الكلام صحيحاً أم باطلاً كما يشكك فيه المؤرخون ويجزمون بلا عقلانيته ، إلا أن اسم " هارون الرشيد " يبقى ذا طابع أسطوري رنان يخيل للقارئ هذا الجو السحري للرشيد والحريم وقصره المنيف .

وفي القصة لم يُتطرق إلى السرد التاريخي أو الحقائق المرتبطة بهذه الشخصية ، وإنما انصبت على  تلك الأجواء المصاحبة لأسطورة الرشيد ، والتي تتجلى منذ استهلالية القصة ،إلا أنها وظفت بشكل مغاير عن جو الأسطورة المعهود .
لقد كان التقديم لشخصية الرشيد مألوفاً مثله كمثل " ألف ليلة وليلة" واعتمد الكاتب نفس الطريقة على لسان شهرزاد بكلماتها الشهيرة : " .. وقد أسطرته أنثى تجيد نسج الحكايات بنول الكلام، وقبل أن يدركها الصباح، فيسكتها عن الكلام المباح، قالت ..  بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي السديد أن الرشيد كان حاسر الرأس، عاري الجسد، وفي ذروة الانتشاء، بين اللهاث، وبين التأوه، مضغوطة، متقطعة، من فمه جاءت (نعم).. "
**إلا أنّ المتلقي يلاحظ  صياغة وتوظيفاً مختلفاً لهذه الأسطورة في القصة التي بين أيدينا :

## لقد كان لوصف المكان الضمني في استهلالية النص دور كبير في جذب انتباه المتلقي للتعرف على هذا المكان الغير واضح والذي لا يعرف عنه سوى أنه غرفة النوم ليكتشف بعد ذلك أنه كان في قصر الخلافة ، فيشعر القارئ أنه مقدم على جو فريد في نوعه لم يسبر أغواره من قبل يلّفه الطابع الأسطوري : " أتخيل وأنا في محاولتي للكتابة أن هناك احتمال، بأن سيدة بني العباس فكرت بحمامها في لحظة توجب الاغتسال، إذن ستنعطف الحكاية نحو غرفة نوم قصر الخلافة .. أفترض أنه في ليلة من ليالي الغرام، أماط الخليفة اللثام ..  "
## إلا أنّ هذه  الديباجة  كانت مفارقة لأفق توقع المتلقي ؛ فهي ليست سحرية خيالية أسطورية كما المعهود في " ألف ليلة وليلة "، فقد كانت توصيفاً لمشهد حميمي بين أي رجل وامرأة ، رغم ما يكتنفه من لمسات ساحرة حيث يتعانق الإيجاز مع حسن الإيقاع في السجع وبلاغة الكاتب في التصوير :  "لحظة الاشتعال، لحظة من وصال، بها يتساوى جميع الرجال، تُخْتَمُ فيها العيون بشمع الخيال .. "
إلا أنه توصيف طبيعي لا يختلف فيه هارون الرشيد عن غيره من الرجال ، بل كان ذكره أقرب إلى التمهيد لمعرفة ظروف إنشاء " حمام زبيدة  أو " عين زبيدة " .
## ثم ما يلبث القارئ أن يفاجأ بتغير لغة القصة بشكل جذري خاصة فيما يخص القصص التي تعتمد ذكر الرموز الأسطورية ، استخدم الكاتب تقنية ( التفتيت ) حيث ينتقل من أسطورة الرشيد إلى الوصف المكاني المفصل بدقة شديدة بالأرقام والأبعاد والمسافات وكأنه يجعل المتلقي أمام خريطة لا قصة :" ارتأى مهندسو تلك المنازل أن تتراوح المسافة بين منزل، ومنزل من ( 13 ـــ 15) كيلومتراً كما ارتأوا أن ينتبذ الحمام مكانا  قصيا ً على بعد ( 120) كيلومتراً عن النجف، و(55 ) كيلومتراً عن الشبكة.." ولا يمكن إغفال دور هذا التحديد الجغرافي للمكان في إيقاظ حس القارئ الذي قد مهده له الكاتب كمكان متخيَّل .  
لذا فيلاحظ أنّ الأسطورة قد جاءت متشظية من خلال السير بالحدث في مسار سردي جديد حيث الوصف المكاني ثم تخيل زبيدة زوجة الرشيد في الحمام : " ربما تكون السيدة العباسية الأولى الآن بحمامها تغتسل، تزيح بالماء الزلال تراب السفر .. وبين يديها الماشطات يمشطن شعرها، أو يظفرن جدائلها، والمدلكات يدلكن ساقيها، أو يفركن قدميها، ربما هي الآن غاطسة في حوض ماء الورد، ومن حولها الخادمات يخدمنها، والنديمات ينشدنها الشعر.." ،  أي أنّ الكاتب تعمّد كسر النمط التتابعي للأسطورة والسرد القصصي في آن واحد مما يرفع درجة التشويق لدى المتلقي إلى أقصى ما يكون .

ربما يشعر القارئ – في النصف الأول من القصة - بحِيرة لا تخلو من متعة لاكتناه سبب هذا التشظي للأسطورة الشهيرة وتعمد استخدام الأرقام الدقيق والصارم والذي يعد غريباً على السرد القصصي ولغته المعروفة بالشعرية ، إلا أن هذه الحيرة لن تنجلي إلا بعد ولوج المتلقي في النصف الثاني من القصة والاقتراب من نهايتها وذلك لظهور رمز أسطوري عربي يتمثل في الغزالة العربية وانشغال القارئ بها كالعدّاء خلفها ليلحق بدلالتها الغائبة.

2- رمز الغزالة العربية :
لقد كان للغزال قداسة في الجاهلية  ، ويستدل على هذه القداسة بحرص الشعراء على ألا يقتل الغزال في قصائدهم ، يقول امرؤ القيس:
وماذا عليه لو ذكرت أوانساً
كغزلان رمل في محاريب أقيال

وكثيراً ما صُوّر تعرض الغزال للمطاردة والإفزاع، لذا فهو حريص على الابتعاد عن أماكن تواجد الصيادين ،وإن قُدر للصياد رؤية الغزال ومحاولة اصطياده فإنَّ نتيجة هذه المطاردة تكون في صالح الغزال ، لذا فلا يتسنى ظهوره إلا عند الفجر أو الغروب . يعتبر الغزال كحيوان عربي هو الأجمل ، الأرشق ، الأذكى والأكثر تواضعاً صاحب الكبرياء ؛ فهو أشبه بالفارس الأمير الذي لا يعرف المناورات ، فقط السباق في خط مستقيم بلا التواء .
وقد لجأ الكاتب في النصف الثاني من القصة إلى استخدام الغزالة وتخليق جو أسطوري لها لنسج وصياغة أسطورة منها ، فيحلم بها الراوي ويتخيلها :" فكرت لو أنني خليت زمام حكاية الحمام ليتمها صديقي البدوي، ورحت أبحث قانصا ً في الجوار، لعلي أحظى بصيد فريد، ويشاء أن يأتي القدر بغزالة تركت أكوام قرون أجدادها عند نصب المنارة.. وجاءت تروم الورد في الحمام "
ويظل يتداولها الشخوص في القصة وكأنها صارت حكاية أسطورية يتناقلونها فيما بينهم :" وقيل أن راعيا ً عازبا ً كان أول من رآها، وأخبر عنها، وصار يحدث الناس سواء سألوه عنها أم لم يسألوه .. يكرر حكايته في كل مجلس"
## الغزالة كبطلة : فقد أعطاها الكاتب الحصة الوافية من العنوان - أول عتبة للنص - ( آخر المستحمات في حمام زبيدة ) والتي قد يظن المتلقي للوهلة الأولى أنها إحدى صويحبات زبيدة أو إحدى النساء ، إلا أنه لا يكتشف حقيقة ( آخر ) المستحمات إلا عند وصوله إلى ( آخر ) النص وما بين تلك المستحمة وذلك الحمام في أول النص يكمن عنصر التشويق في القصة حتى آخر كلمة فيها حيث تدور كل الأحداث حولها بما فيها المقدمة التي كانت تمهيداً لذكر الغزالة ومكان موتها .

## تعدد الساردين : فلم يقولب الكاتب الغزالة في حدود راوٍ واحد فقط حتى وإن كان الراوي العليم بكل الدقائق والظواهر والبواطن ، وإنما ساق الحديث عن تلك الغزالة على لسان أكثر من راوٍ ، ابتداءً من الراوي المشارك في الأحداث ثم البدوي الخرافي ثم الراعي العازب ، وكل منهم يتخيلها ويروي عنها جزءاً ما ، مما يخلق حولها جواً أسطوريا .
 ويلاحظ المتلقي بالنظر إلى الرواة الثلاثة أنها قد أخذت شكل القوالب الأشبه بالصناديق المتداخلة ، فكل منهم يروي عن الآخر ؛ فالراوي المشارك يبدأ الرواية عنها  :" أنا لم أكن جهرت بما كنت أفكر فيه، فكيف تلقفته أُذن صديقي معجم البادية، فجاءني على غفلة كالردم ليروزني بعين كعين الصقر..، قال ذلك البدوي الخرافي : أتفكر أن تأتي إليك غزالة ؟ "
ثم يبدأ الراوي الثاني البدوي الخرافي بالسرد داخل قالب الراوي الأول حتى نهاية القصة :" ثم بدأ يسرد حكايته : حدث ذلك في القيظ .. والقيظ كما تعرف لا يرحم أهل الحضر، فما بالك بأهل المدر.. فكانت هي جنية الحمّام الجميلة، غزالة لم تقع عين / القوافين / .. على غزالة من قبلها، ولا من بعدها .. وقيل أن راعيا ً عازبا كان أول من رآها، وأخبر عنها"
ثم يبدأ الراوي الثالث الراعي العازب بالسرد داخل الرواية الثانية ولكن روايته تكون منغلقة أي محددة النهاية والإطار : " يكرر حكايته في كل مجلس : يا جماعة الخير كانت الشمس قد ترجلت عن ناقتها، والشمس كما تعرفون تدعى الغزالة .. عرفت كل ذرة رمل بدرب زبيدة أنني عاشق لتلك الغزالة .. ومثل قطاة مفزوعة كانت حكاية ذلك الراعي تطير وتقع بين الخيام"

## الغرائبية : استطاع الكاتب باقتدار خلق أسطورة تلك الغزالة التي تشبه الجنية والجميع يبحث عنها لاهثاً ، لم يكتف بذلك ، بل لاذ بالجو الغرائبي السُريالي في تصوير أول ظهور لتلك الغزالة الجنية :" رأيت منارة ( أم القرون ) بعينيّ هاتين اللتين سأطعمهما في النهاية للدود / تهتز/ تتلوى / كامرأة فاجأها الطلق، ثم رأيت شبحاً يقفز منها، يهرع نحو خيمة الأفق، هنالك على بعد رصاصة من مكاني، رأيت جنية بهيئة غزالة، رأيتها فاتحة فمها لتبل ريقها برطوبة نسيم الشمال"
فلجأ الكاتب إلى ما يعرف بالواقعية السحرية حيث قدّم (موضوعات قريبة في غرابتها من عوالم الحلم وما يخرج عن العالم المألوف من رموز وأشكال .. غير أنها تنضاف هنا وبصورة أساسية  أيضاً ، إلى تفاصيل الواقع ، إذ يرسم القاص تفاصيله رسما موغلاً في البساطة والألفة ، مما يزيد حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل)[8] ، كذلك عند قفلة القصة حيث موت الغزالة كان بطريقة أقرب للغرائبية : " فنفرت الغزالة، وقفزت الى أعلا ما تدفعها قوائمها طائرة فوق رؤوسهم، لتلوذ بحجر أمها البادية، ولكنها حين نطقت البنادق نكست الى الحمام ثانية، فاستقبلتها السيدة زبيدة، فكانت آخر المستحمات بحمامها الذي تغير لون الماء في حياضه الى الأحمر القاني ." فتترك القارئ يفارق النص عند تلك الخاتمة الحزينة .

## مفارقة : لا تتوقف هذه الأسطورة عند ذلك الحد الأسطوري المألوف والذي تتغلب فيه الغزالة دوماً وتفوز بجولتها في المطاردة ، فها هو الخط الواقعي يدخل وبقوة ؛ فما تفعل غزالة واحدة وإن كانت جنية أمام الأغراب من العصر الحديث بأسلحتهم الشيطانية الفتّاكة وهي تلك المنتمية إلى البادية حيث البساطة والعجز في آن واحد : " الغزالة كالردم / تنحط / تنحدر / تلتف / تركض / تقفز / تسرع / تناور/   والسيارة تسرع في إثرها، الصيادون مبتهجين يصرخون ونظرة الظفر في أعينهم .. تمهلوا حين رؤها تدخل حمام زبيدة، تتوقف / لاهثة / متعبة / عطشانة / قرب حوض استحمام السيدة المترع بالماء القراح .. لم يمهلوها حتى تشرب .." ، إنها حرب غير متكافئة بين المفرد والجماعة ، بين الفطرة والتطور ، بين الماضي الأصيل والحاضر المخيف ، فكانت الغلبة للصيادين ، وقتلت في النهاية الغزالة لتعود إلى أحضان أمها البادية التي كانت أرحم بها من البشر .

3- الصحراء كفضاء أسطوري :
تعدّ الصحراء الفضاء الروائي للقصة حيث تجري فيها جُلّ الأحداث ، وقد انتقل الكاتب من فضاء الصحراء الجغرافي في النصف الأول من النص بتوصيفها الدقيق إلى فضاء أسطوري في النصف الثاني .
 ربما تظهر الصحراء كفضاء طبيعي في ظاهره القحل والتقشف والجدب :" فوقهم الشمس محمرة العين غاضبة، تحتهم الرمال في المحماس تحمس، قدامهم الصحراء مسفوحة، حولهم الكثبان حاسرة الرأس جاثمة، والجو خال، والهواء مقيد، الشجيرات محنية الظهر مثل العجائز، والحصا يتوهج كالجمر، والحجارة تكاد تفتتها قبضة الصهد " ، إلا أنه استطاع أن يخلق منها فضاءً أسطورياً من التفاصيل التي أضيفت إليها ، ابتداءً من جو البدو والخيام  والاعتماد على طبيعة الصحراء ذاتها ؛ فهي ذلك الفضاء الواسع اللانهائي حيث يضع الإنسان في مواجهة مع ذاته وقدره الحقيقي ؛ فيغيب الإنسان في وسط كثبانها الرملية ويصير ذرة من رمالها .
وقد أحسن الكاتب في استخدام عدد قليل من الشخوص في ذلك الفضاء مما يسمح لكل منها بالتخيل والتأمل ، فتظهر النفس الإنسانية ضعيفة ،وذلك بفضل الرمزية التي أضيفت إليها باستخدام الغزالة كرمز أسطوري ،فــ ( تستعمل الرمزية للتعبير عن الحالات النفسية المركبة العميقة .. وذلك بفضل الخيال الذي يستعين به [الأديب] لتصوير رؤى شعرية تعبر عن مكنونات النفس وخواطرها )[9] ، فكثيراً ما تحاول النفس البشرية مغالبة الأصل – الطبيعة – والانتصار عليها بفضل الآلة  ، والتي في هذا النص مع الأسف لا تنتمي حتي لبيئة هؤلاء مما يعطي بعداً إضافياً لواقع تلك النفس العربية المهزومة ، فلقد لجأ الصيادون لأساليب لا تنتمي لهذا المجتمع - حتى وإن كانوا من مجتمع قريب من تلك الصحراء ، إلا أنها ذات الفكر والتكوين - من أجل قتل رموزه وعناصره الأصيلة المتمثلة في الغزالة ، فتختار البطولة والتضحية على الخبث والمراوغة ، فكانت البادية هي الأم الرحيمة التي قد تؤذي قاطنيها من قسوتها إلا أنها لا تقتلهم وتجهز عليهم.
لقد كانت الصحراء هي ذلك الفضاء الواسع الذي يفضح النفس البشرية الضئيلة المتقوقعة وراء الأقنعة ، ففيها يعود الجميع إلى فطرته ، والمثير أنه يكشف عن حجم الصدام بين الإنسان العربي وأصله وتاريخه بحكم الانتماء المكاني ..

ومن هنا بالإمكان ربط أول النص بآخره .. لتظهر الهوة السحيقة ، ففي أول النص كانت مظاهر السلطان والازدهار التي تمكن من إقامة مشروع عملاق من الكوفة إلى مكة من أجل زرع عيون الماء في الطريق يشرب منها البشر والحيوان والنبات .. الآن وقد صارت قاحلة مهملة ليس فيها سوى النزر اليسير تقتل فيها الكائنات قبل الوصول إليها لتتحول العين إلى بركة من الدماء ! ، ومن هذا الصدام تتلاشى قيمة الزمن المعنوية ، ويبقى القارئ بين واقعين المقارنة بينهما مؤلمة .
خاتمة :
إن قصة ( آخر المستحمات في حمام زبيدة ) تتمظهر فيها الأسطورة العربية الأصيلة والتي اعتمدها الكاتب في تأصيل فكرة المقابلة بين الماضي المزهر والحاضر المؤلم بكل مفارقاته ، وقد نجح الكاتب باقتدار في توظيف الخط الواقعي بمحاذاة الخط الأسطوري بحد يصعب العثور عليه مما أعطى العمل فنية عالية . أضف أنه نجح في خلق أسطورة جديدة والتي كانت هي بطلة هذا النص ( الغزالة ) . ولكن يبقى النص بحاجة إلى دراسات كبيرة ومتنوعة عليه ذلك لثرائه المتميز وتعدد التأويلات فيه ، وهذا إبداع من الكاتب .

المراجع :
1-  المعجم الأدبي: جبور عبد النور،دار العلم للملايين1984 ، ط2 ،ص 19  
2-  النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري : حنّا عبود ، إتحاد الكتاب العرب 1999 ،ص 90
3-  النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري ، ص 7
4-  النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري ،ص 44
5-  اتجاهات الشعر العربي المعاصر: د/ إحسان عباس ، عالم المعرفة ، ص 129
6- النزوع الأسطوري في الرواية العربية (دراسة) : د/ نضال الصالح ،اتحاد الكتاب العرب2001، دمشق: ط1.
7- هارون الرشيد في ألف ليلة وليلة: د. محمد عبد الرحمن يونس، مجلة أفق : الأثنين 01 أبريل 2002
8- دليل الناقد الأدبي : د/ ميجان الرويلي و د/ سعد البازعي، المركز العربي الثقافي2002 ط3،ص 348
9- الأدب ومذاهبه : محمد مندور ، ص 115 ___________________________________________________

دينا نبيل -- مصر