الأربعاء، 14 مايو 2014

تكاملية الأضداد في "أشياء... الميدان" بقلم: دينا نبيل





تكاملية الأضداد في "أشياء... الميدان"

"إنه ميدان التحرير.. إذن!

لأن المصريين سكنوه بدلا من ثكنات الجيش الإنجليزي، أيام الاحتلال..

ولأن المصريين يموتون على أرضه الآن..

بدا الميدان منحوتاً بخريطة مصر، شمالها بسعة الخط الواصل من وزارة الخارجية، وجامع "عمر مكرم"، حتى مبنى الجامعة الأمريكية.. ويضيق خط الجنوب قليلاً بسعة ميدان عبد المنعم رياض.. يشقها شلال من الناس عوضاً عن نهر النيل."

(رواية "أشياء عادية في الميدان"- السيد نجم)



ليس الروائي محض ناقل لوقائع وأحداث مجرّدة، وإنما هو مؤرخ إنساني ينقل بدقة المرحلة التاريخية بأبعادها الإنسانية كما يعايشها أصحابها؛ فهو مؤرخ وباحث وسيكولوجي ورجل اجتماع يطمح إلى إصلاح مجتمعه بتجسيد مثالبه ومشاكله والمتغيرات التي تطرأ عليه ليقف مكاشفاً لواقع مجتمعه، مجسّداً لآماله وطموحاته ومخاوفه. ورواية "أشياء عادية في الميدان" للسيد نجم تُعدّ نموذجاً للرواية التي تؤرخ لمرحلة تاريخية هامة في تاريخ مصر وهي ثورة 25 يناير؛ وليست الرواية سرداً أجوف يشتمل على حقائق تاريخية صريحة، بل يدمج الكاتب العام مع الخاص وينزل إلى العوالم الخاصة لشخوص الرواية كي يصوّر مردود الثورة الاجتماعي والنفسي على الشخوص بدلاً من أن تبدو حقائق تاريخية طافية في الكتب بعيداً عن أرض الواقع. ومن ثمّ يبدو النسيج الروائي شديد التواشج لأنه لا يصور مواقف منفصلة لشخوص من خلفيات اجتماعية مختلفة وإنما يصورها كشخوص فسيفسائية ومشاهد متراتبة مجمّعة يحوّطها مكان روائي واحد – الميدان.



 لا يلتزم العمل الأدبي علمية التأريخ الصرفة وترتيب الأحداث الزمنية، فالرواية التي تتألف من عشرة فصول تكسر إطار التاريخ الصلد عبر سريان الأحداث في حركة دائرية تعتمد على الاسترجاع. تبدأ الرواية بـــ"الفصل الأخير" ثم الأول فالثاني .. حتى الثامن، انتهاءً بـــ"الفصل قبل الأخير"، فتنطلق الرواية من مشهد داخلي للشخصية الرئيسة "سري" الذي يلحظ تغير ملامح وجهه في المرآة وتحسن علاقته الزوجية إثر عودته من الميدان، ثم يعود الراوي بالأحداث إلى مقدمات ذهابه إلى الميدان ثم تحوله إلى شاهد عيان على وقائع الثورة وتطورها على أرض الواقع وصولا إلى عودته إلى بيته ولقائه بزوجته. تحيل بنية الرواية الدائرية إلى الشكل الفيزيقي لميدان التحرير حيث تقع أحداث الرواية، كما أنها توحي بديمومة العلاقة التلازمية بين مدلول الميدان -كدال على التحرر من الأسْر والثورة والدعوة إلى التغيير. إنه يشبه حلبة الصراع، وقتال الإنسان ليثور على الدكتاتورية والظلم الاجتماعي والسياسي، ومجاهدة الإنسان ليكتشف ذاته وليتعرف على هويته ونقاط قوته التي طمستها الأنظمة الباترياركية (الأبوية).

يقدّم الميدان تجسيداً للواقع المصري من خلال عدد من الأنظمة البنيوية ينسجها الكاتب في ثنائيات ضدية شديدة الحبك متداخلة كالحلقات، فنجد عناصر النظام الأبوي جنباً إلى جنب مع الشباب الثوري، وتتلاقى الأجيال: الماضي مع الحاضر، ويتداخل عالم الواقع مع عالم الافتراض. وعلى الرغم من اتصاف هذه الثنائيات بالضدية فيما بينها، إلا أن هذه الثنائيات وبوصف الرواية منتمية إلى تيار ما بعد الحداثة، تندمج ولا تظهر تنافراً بقدر كونه نوعاً من التكامل والتلاحم، وهو ما يجسّده عنوان الرواية من مفارقة -"أشياء عادية في الميدان". فمن الأشياء العادية أن توجد الأضداد جنباً إلى جنب في الميدان، بل من الممكن أن نقول أنها من الأشياء التي تحدث فقط في مصر، يقول الرواي عن أحد المشاهد في الثورة: "مقبرة مغروزة بصور الشهداء، محاطة بسور من الحبال الملونة، مجللة بعلم كبير لمصر.. وبعض الزهور البلاستيكية، هنا وهناك... رسوم ضاحكة!... لا يحدث أن تكون الضحكات إلى جوار شواهد الموت إلا فى مصر!". فهذه الأشياء ليست عادية إلا في الميدان؛ مثلها مثل وجود متظاهرين من ذوي الأربعة أعوام، ومن يرسم علم مصر أو خريطتها على جسده، ومن يأتي على كرسيٍ متحرك ليشارك في الثورة، ومن يعقدون القران إلى جوار الدبّابات، وهتافات الالتراس، ومن يوازي بين خط القناة مع الميدان. بل إنّ الميدان يتحدّى إطاره المكاني الفيزيقي ليعطي بعداً سيكولوجياً طارحاً جدلية البيت واللابيت، فيصبح الميدان المأوى الجديد لمن يعانون القهر سواء من زوج الأم أو الزوج المتسلط. فكل له سببه الذي يدفعه إلى التظاهر؛ تعددت الأسباب والثورة واحدة، والميدان واحد.                                 

تأتي الثنائية الضدية ( النظام الأبوي – فئة الشباب) لتطرح الواقع الثوري وأسباب الصراع بين الطرفين. فعبر المفهوم السوسيولوجي والعلاقة الديالكتية (الجدلية) بين هذين القطبين، تتضح الهوة الشاسعة بينهما وصعوبة وجود أرض مشتركة. ليست تلك الفجوة معبرةً عن الواقع السياسي وإنما الواقع الاجتماعي بشكل عام؛ فــــ"سري" يعاني في شبابه من دكتاتورية النظام الأبوي المتمثل في والده وفي كل من لديه سلطة فوقية في مجتمعه التراتبي، يقول عن والده:" مرت الأيام، كبرت وناطحته رأيا برأي.. لم يتحمل رأيا يخالف رأيه"، ثم أن المجتمع كله يعاني أزمة قبول الرأي المخالف ويصدّرها إلى بقية أفراد المجتمع، يقول: "وجدتهم كلهم مثل أبى، من ذوات الأبواب الموصدة.. مديري فى المصلحة الحكومية، محصل الأتوبيس الموصل إلى  مقر عملي، بائع رغيف الخبز فى الفرن المجاور، جندي الحراسة أمام باب قسم الشرطة، مدرسو الحضانة وأساتذة الجامعة..وكل من قابلت!". وعليه يدخل "سري" في التيار الأبوي ذاته ويصير أحد تروس هذا النظام المتسلط العتيد؛ فيتحكم في عمل من يرؤس ويدّعي أنّه الخبير بالأمور، حتى أنّه كان يتمنى الولد ليمارس عليه سلطة الأب. وتُقدّم الرواية في المقابل بنية فئة الشباب الذين يكسرون قاعدة تحكّم النظام الأبوي ويضعون حلاً لهذا الصراع متجسّداً في ثورة 25 يناير، يقول عنهم "سري": "مجموعة من الشباب من ذوى الدم الفائر، يعلنون تمردهم.. لا هم فئة بعينها لها مطالب محددة ترجوها..! ولا حتى سمعت عن زعيم يلتفون حوله جسداً كان أو فكرة!". فتتحرر هذه الفئة من فكرة الأب/القائد/الزعيم /البطل الأوحد الذي عهدت أجيال الكبار أن تلتف حوله، مما يلفت انتباه المتلقي لاختلاف الوعي بين الجيلين ولا ننسى من كان من جيل الآباء يتهم هؤلاء الشباب بالمؤامرة وزجّ الأيدي الخفية بهم إلى تخريب البلاد، وهذا ليس إلا دليلاً على الفجوة الكبيرة بين جيل الآباء والشباب.



يجمع الميدان الحاضر الثوري المتمثل في 25 يناير، كما أنّه يطرح بعداً زمنياً للمكان باعتبار أن الزمن هو البعد الرابع للمكان، وهنا تأتي الثنائية الثانية (الماضي-الحاضر). يؤرّخ الكاتب لتلك المرحلة الزمنية منذ سعد زغلول الذي تضع امرأة عجوز صورته في شقتها حيث يلجأ الثوّار، فهو بذلك يربط حلقات التاريخ الثوري معاً. كما يبرز دور الميدان في كونه الشاهد على عدد من الثورات والمظاهرات: في ذكرى نكبة فلسطين وفي أعقاب نكسة حرب 67 وعند ارتفاع الضرائب في عصر السادات ومؤخراً في ثورة 25 يناير. وكما أسلفنا لا يقدّم الكاتب حقائق طافية، وإنما ينزل إلى مستوى الأفراد ويجسّد في مشهدية عالية روح التلاحم وتلاطم الأفكار أحياناً وانسجامها أحياناً أخرى، ونقل الخبرات من جيل الكبار إلى جيل الشباب، وظهور روح التعاون والعطاء والاندماج في إيقاع العمل الجماعي. وهكذا، تتبدل الأدوار من كون "سري" الخبير بالأمور وأحد عناصر النظام الأبوي الذي يتحكم في الآخرين، ليصبح هو السائل الآن، ويصير شاباً في العشرين. فتزول الفوارق بين الأزمنة والطبقات الاجتماعية وهذا هو التغيير الذي يصوّره الكاتب في بداية الرواية في مرحلة انسلاخ الجرادة من هيكلها الخارجي الصلد، فيتحول "سري" من حبيس لشرنقة توفير لقمة العيش ودوّامة النظام الأبوي التراتبي إلى إنسان يسعى إلى التغيير والتحرر من القيود، يقول: "أقسم أنني مررت فى الميدان مرات لا تعد ولا تحصى.. مع ذلك لا أدرى أين أنا منه الآن.. هل تغير الميدان أم أنا الذي تغير؟ّ!". ومن ثمّ يأتي الاختلاف بين الثوريين من جيل الآباء والثوريين من جيل الشباب؛ فيتعجب "سري" من توجه الشباب والفتيات الجميلات من المستويات الراقية لتكبدهم مشقة النزول إلى الميدان وتنظيفه والشوارع المحيطة. فعبر استرجاعات "سري" لمظاهرات الطلبة في الماضي التي كانت تقام في الميدان، يقارن بين شكل الثورة قديماً وحديثاً، يقول عن شباب 25 يناير: "رأيتهم من ذوات الأكف الناعمة، أرى فيهم من الشباب والشابات.. من ملابسهم المستوردة... وليست من مصانع القطاع العام؟!، بل من لكنة نطق بعضهم للعربية.. والمفردات الانجليزية والفرنسية التي ينطقونها؟ من سحنتهم الناعمة، تبدو وكأنها تحمل هالة غامضة وضاءة؟!." ومن ثم يلقي الضوء على وسائل الثورة المستحدثة كاستخدام الأبواق والمنصات والهتافات الجديدة المنغمة التي تضفي نشوة على قائليها حتى يتحول الميدان إلى حلقة ذكر صوفية كبيرة يذوب فيها المرئي في اللامرئي والجزء في الكل، ويتجرّد الإنسان من ذاتيته ولا يتحرك إلا بالروح الجماعي. 



يجمع الميدان ثنائية (الواقع – الافتراض)، وتمثّل هذه الثنائية التحدي الكبير لإثبات إمكانية الحشد الثوري عبر عالم الافتراض لتغير الواقع. فالواقع مليء بالضباب والظلم والقهر، فهناك ممن أتى إلى الميدان من أجبروه على تقديم استمارة "معاش مبكر" قبل الأربعين من عمره، والأجير الذي جاء من أقصى الصعيد، ومن نُزعت منه العمودية لرفضه تأييد أحد المرشحين، ومن يُذل في الخارج ففرّ إلى الميدان. فيجيء الشباب في المقابل عبر عالم الافتراض، يعرفون بعضهم بعضاً ليس بالشكل وإنما بالتوجه والمواقف وهو ما يعد أكثر نضجًا؛ وتتحوّل هذه الشخصيات الفيسبوكية أو الافتراضية إلى شخصيات حقيقية بنزولها إلى أرض الواقع. وهنا تأتي دلالة "الافتراض"، وكيف يتحول الشخوص في هذا البلد إلى شخوص افتراضية؛ فالإنسان الحقيقي أو من يمتلك شخصية حقيقية هو من لديه الحرية والكرامة ويتمتع بحقوقه الإنسانية والعدالة الاجتماعية. أمَا وقد سلبت من الإنسان هذه الحقوق فيتبدّل إلى إنسان افتراضي؛ إلى منطقة فراغ أو عدم أو ما بين الحقيقة والعدم ولا يُفعّل هذا التواجد إلا عند نزوله إلى الميدان. ومن ناحية أخرى، يتوازى العالم الافتراضي مع عالم الأحلام وافتراضات الشخوص وآمالهم التي يطلق لها العنان ولكن لا تكتفي بذلك إلى عند نزولها إلى الواقع. فيتحول "سري" من العيش في شرنقة المرحلة البينية "بين الوجود واللاوجود" التي اكتفى فيها بالجري وراء لقمة العيش والتفكير في عمله والسير في روتين الحياة الممل، إلى استشعار وجوده عند تغيير نمطية حياته وتحطيم أغلال النظام التعسفي الذي يدور بين رحاه .



تبدو شخصية "سري" على الرغم من كونها شخصية محورية إلا أنها شخصية غير بطولية أو ما نسميه بــ"اللابطل"، وهو مصطلح ضمن تيار ما بعد الحداثة. فهو شخصية نمطية تمثل فئة عريضة من أفراد مجتمعنا، سواء في شكله النمطي الخارجي، أو طابع حياته الروتيني الذي يخلو من ملامح البطولة وإنما يقبع حبيس عدة أمور: مرضه بالعنّة وملله من حياته الزوجية التي تتخللها الكوابيس والهلاوس الليلية ومحاولاته الكثيرة في التعاويذ والطب البديل للحصول على الولد. يضع "سري" حياته داخل شرنقة ويمارس عليها أنواعاً من التعسف اللاإرادي متبدّياً في نرجسيته كرئيس في العمل، ومكابرته وادعاءاته تحدي الرؤساء في قراراتهم كونه أحد جنود انتصار أكتوبر. وتتبدّى في ميوله التوجّه الميكافيللي وانكفائه على الصراع من أجل درجة مالية أو ترقية وظيفية وإيقاع المكائد ودسّ الأوراق لتعطيل ترقيات زملائه. إلا أنّ هذه الشخصية تتغير وتعود إلى فطرتها المعطاءة التي كانت عليها وقت حرب أكتوبر عند مواجهته بــــ"مهدي"، عامل الكافيتيريا. فعلى الرغم من تدني مستواه الاجتماعي، يسعى "مهدي" إلى المشاركة في الثورة ويتحرك في الميدان كالمُلهم الذي يعرف ما يفعل. فيتحوّل "سري" تدريجياً من "سري عبد العليم" الذي يدّعي علمه بكل شيء إلى التحرر من قيوده النفسية والنرجسية وحتى من قيوده العادية كفنجان القهوة، كارت الرصيد، وشاحن الموبايل، ليصبح شخصية "سيزيفية" يحمل نقالة المصابين في التحرير ولا يهمه تكرار ما يفعل.



يزاوج الكاتب بين الحقيقة والأسطورة في الرواية عند تقديمه شخصية "مهدي"، الشخصية المضادة لــ"سري". تتمثل في شخصية "مهدي" صفات أسطورية بقدر كونها حقيقية، إذ إنّ "مهدي" يجسّد روح الشباب التوّاقة إلى التحرر من الضغوط. فيقرن الكاتب بين تظاهر "مهدي" في الميدان والذي يحيل اسمه إلى المهدي المنتظر ومشاهد قتال "هرقل" في الأسطورة الإغريقية. وتأتي تلك المزاوجة نتيجة طبيعية لما تكلم عنه كلود ليفي ستروس عالم الاجتماع والانثروبولوجي الفرنسي ضمن رؤيته للأسطورة في المنهج البنيوي. فلا توجد نسخة واحدة أصلية من الأسطورة، فكل نسخة من الأسطورة تكون معمولاً بها، لأن كلّ منها يجسّد محاولة الأبنية لوضع نظام للعالم الفوضوي والخبرة الإنسانية في بوتقة واحدة. فبتقليص الأسطورة إلى عناصر بنيتها الأولية، تلتقي أسطورة البطل "هرقل" الذي يقتل أسد نيميا، مع عامل الكافيتريا "مهدي" على الرغم من أنه ليس نصف إله وخارق القوى كــ"هرقل"، لكنه عامل فقير. حتى وإن اختلفت الوحوش التي يقاتلها "هرقل" عن الوحش الكبير الذي يقاتله "مهدي" –النظام الأبوي في هذه الحالة، فهناك سمات مشتركة وهي الجرأة في اختراق الأخطار والتكفير عن خطيئة أو إثم لم يقترفه ولكن وجد نفسه يكلّف بهذا القتال. ويكفي أن البطل في الحالتين كان مصدر إلهام لكل من يسمع عنه. وأخيراً، إن رواية "أشياء عادية في الميدان" تمثل تأريخاً لمرحلة فارقة في تاريخ مصر، وهي ثورة 25 يناير، مسلطة الضوء على أهم مشاهد الثورة وروح التضحية والتعاون بتقديم الميدان عبر نظام بنائي معتمدٍ على ثنائيات ضدية تتمخض عن الثورة لتكسر الهيكل الصلب للنظام الأبوي. ولعل أكثر ما ركزت عليه الرواية هو روح التغيير التي تسود الميدان ليس على مستوى الجماعة الإنسانية والمجتمع، وإنما على مستوى الشخوص والأفراد. فنمطية الشخوص في الرواية لا تلبث أن تتغير عند اكتشاف نقاط قوتها وهو ما تعوّل عليه الرواية؛ فالثورة تبدأ أولاً من داخل الإنسان وليس الظروف المحيطة.



دينا نبيل

(منشورة بمجلة المجلة عدد مارس-إبريل 2014/ صفحة 78-80)


السبت، 1 يونيو 2013

"حاوي عروس" .. الأسطورة وزمن البداءة








"حاوي عروس" .. الأسطورة وزمن البداءة



" يمدّ يده في الهواء جالباً باقة صبار شديد الاخضرار. يرمي باقة الصبار إلى أعلى . تتناثر فوق الرؤوس طراطير ملونة. ينظر أهل القرية إلى بعضهم البعض ويضحكون. لكنهم عندما يحاولون خلع الطراطير لا تنخلع. حاول البعض قصها أو نشرها أو حتى حرقها. لكنهم جميعاً فشلوا. فتركوها في مكانها ومارسوا حياتهم متجاهلين إياها. حتى نسوها تماماً ولم يعودوا يرونها/ قصة " حاوي ".



بين قصتي "حاوي" و"عروس" تقع المجموعة القصصية "حاوي عروس" للأديب منير عتيبة الصادرة ضمن سلسلة " كتابات جديدة " عن الهيئة المصرية العامة للكتاب . لا تقتصر المجموعة على كونها متألفة من مجرد قصص قصيرة ، وإنما تأخذ صفة المتوالية؛ فأحداث المتوالية تقع في فضاء روائي واحد " قرية خورشيد " بالإسكندرية وإن تعددت الأماكن الروائية ذات السمة الكرنفالية (السوق- موردة الجنايني – ترعة المحمودية - المقابر). كما تعرض لأحداث تقع لعوائل تقطن هذه القرية يربط بينها عددٌ من الروابط الإنسانية: الدم والنسب والصداقة. ومن ثمَّ يلمح المتلقي تكرار بعض الأسماء وألقاب العائلات، بل وتلتقي الثيمات المسيطرة على المتوالية وإن اختلف التعبير عنها بأكثر من أسلوب ورمز. وعليه تتبدّى سمة التعددية في المتوالية؛ فتقف كل قصة ككيان مستقل نسبياً ، متصل منفصل في آن واحد يغاير الكاتب فيما بينها بين تقنيات تحفظ لكل قصة جماليتها وذاتيتها التي لا تنفي تسلسلها ضمن كُليّة العمل. على الرغم من ولوج الكاتب عوالم الغرائبية والواقعية السحرية في أعمال قصصية سابقة مثل:" يا فراخ العالم اتحدوا " و"مرج الكحل" إلا أنّ هذه المجموعة تأخذ منحى مختلفاً وأكثر رصانة ألا وهو البعد الأسطوري الملحمي الذي تتفاوت قوته بين أصالة الأسطورة واستقاء المُخيل الجمعيّ من الحكايات الشعبية والطوطمية. فلطالما كانت الأسطورة والمحكي الشعبي معيناً لا ينضب للأدب المعاصر، لاسيما عند تناول المسكوت عنه اجتماعياً كان أو سياسياً أو دينياً.

تبدأ المتوالية "حاوي عروس" منذ الإهداء بطرح ثنائيات دلالية عدّة ، يقول :" إلى خورشيد التي تعرفونها، وخورشيد التي لا يعرفها غيري ". فالإهداء نص موازٍ غير منبت الصلة عن ثيمة العمل، يطرح ثنائية المعرفة واللامعرفة وما بينهما من مستويات الإدراك؛ تبدأ من اللامعرفة إلى المعرفة السطحية ثم الواقعية وصولاً إلى الماورائية. ينبني على هذا الإهداء تأصيل فكرة البطل الأسطوري أو الشعبي في مواجهة الجماعة إذ يضع الفرد - "لا يعرفها غيري" - في وجه الجماعة "لا تعرفونها" المراد تغييرها. وعليه كان الإهداء إلى المكان وليس الشخوص، حتى كاد أن يتحول إلى بطل المتوالية وليس الشخوص.

يجيء المفتتح بتذييل "من كتاب تاريخ خورشيد غير الرسمي" ، ليغور الكاتب في أعماق تاريخ منسيّ غير معلن لقرية شهدت موطئ آدم وحواء وأول شعور لهما بالتقلصات المعوية؛ ومن هنا تأتي وظيفة الأسطورة في العودة إلى زمن البداءة الإنسانية بحثاً عن المعرفة وإجابة عن تساؤلات جوهرية منذ بدء الخليقة والتحديات الكونية لطاقة الإنسان مما يجعله في صراع دائم بين تحدٍ واستسلام ؛ فالصراع الأزلي بين الخير والشر كان محور الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، يقول :"حوّل الشيطان نفسه إلى ثعبان ضخم، التحم مع الحية في رقصة زواج عنيفة، تركت الحية بعض بيضها في المكان"، فتتّحد قوى الشر(الحية والشيطان) لمواجهة العدو المشترك - آدم وحواء وذريتهما. عندما تنضام هذه العناصر تأخذ "خورشيد" حيث الصراعات حد الغرائبية ومفارقة العقل ما يجعلها تشبه قرية جارسيا ماركيز "ماكوندو" في رائعته " مئة عام من العزلة "؛ فهي مركز الكون ومحور حياة قاطنيها كما هو الأصل في المجتمعات الإنسانية التي تمثّل القرية نواتها، ولا يفكّر أهلوها في الخروج منها بالرغم مما يكابدونه من ظلم وضيم، فيضع الكاتب أزلية المكان الأسطوري في مقابلة استسلام الشخوص أحياناً أو محاولتهم هباءً تحديه؛ فالزمن – البعد الرابع للمكان - أزلي وإن استشعر القارئ الحركة الزمنية ودائرية الحياة وتلاقي الأجيال إلا أن التوظيف الأسطوري خلق جواً من الأزلية ذا دلالات رمزية.

1-                (حاوي / وليّ / حفرة) :
تبدأ المتوالية بثلاث قصص، يتولى السرد فيها راوٍ مشارك ثانوي الدور يقتصر على الرؤية من الخارج ونقل الأخبار التي يتناقلها أهل القرية حتى تصل إلى مسامعه لذا تكثر أفعال "سمعت، يقال، قالوا" التي تنسج جواً أسطورياً حول الشخوص المحورية. في قصة "حاوي" يأتي التناقض بين أهل القرية الذين يمثلون حزمة واحدة تشبه " تماثيل خشبية مسوسة بلا وعي" على النقيض من الحاوي ذي الصوت المهيب، يقول الراوي :" قالوا إنه اعتاد الظهور كل يوم أحد، وقالوا إنه يظهر مرة كل شهر، والبعض أكّد أنه يظهر كل قرن مرة "، فهو خارق في هيئته وظهوره المفاجئ واختفائه " ككتلة من نار" . ليست أفعال الحاوي هنا مجرد ألعاب خفّة اليد المثيرة للضحك والاستمتاع، وإنما أفعال خارقة تبثّ الرعب في قلوب جمهور القرية، فباقة الورد البلدي يحولها إلى براز عصافير يتناثر فوق الرؤوس، وعود الفل الأبيض يصير كلابشات صدئة تلتف حول الأيدي والأرجل ولكنهم يعتادون عليها في كل مرة. إن بواطن رمزية الموقف الغرائبي يعكس أزمة القرية التي تنبذ المقاومة دون البحث فيما وراء الأشياء للوصول إلى حقيقتها؛ فتؤثر الاستسلام واعتياد الأزمات حدّ نسيانهم إياها وإن كانوا لا يستشعرون مدى سقم حالهم.

تخرج الأحداث إلى الكوخ الصفيح – في قصة " وليّ" – خارج تخوم المقابر حيث يتوقف الزمن وتتلاشى عنده معاني المحدودية . يتخطّى الوليّ العالم الواقعي ويصير كائنا أسطورياً تُروى عنه الأخبار لاسيما علاقته بالجن وقدراته الخفيّة. يكمن السحر في كلمته الوحيدة - " الليلة لكِ " - ليقع اختياره على إحدى العاهرات لتبيت معه في كوخه دون معرفة ما يفعلان سوى ما يُقال عن تغسيله النساء في" الطشت الذهبي المسحور من قصر سليمان تحت الماء " ومن ثمّ تخرج تائبة . لقد تمكن الوليّ من تغيير ملامح القرية بتناقص العاهرات وعودة الأزواج إلى بيوتهم، مما قوّض سلطات قريته: خطيب الجمعة وضابط النقطة والفتوات. تكمن ذروة الحبكة عند العثور على جثته " ملقاة في وسط الشارع الرئيس كان عارياً تماماً مقطوع العضو" ؛ فيرسم الكاتب ملامح القرية النفسية والاجتماعية؛ إذ كيف يحزن أهلوها عندما تتناقص الرذيلة ويفرحون عند موت الولي! . يظهر موتيف ( نذير الشؤم ) في قصة " حفرة " متمثلاً في منصور التُربي الذي يحفر قبور الموتى قبل أن يموتوا ، فاطلاعه على الغيبيات وعمله في حفر قبور أهل القرية وإخباره بمصير الأموات في القبور يجسّد الحقيقة عارية مما يورّطه في كثير من المشاكل حد الرغبة في قتله، يقول الراوي:" أصواتهم تتهمه بالسحر وقتل الناس وفضحهم ". على الرغم من الفكرة المعهودة عن ارتياح الإنسان النفسي للأولياء وأهل الغيب ممن تشفّ أرواحهم ولكن هنا يتبدّى خوف الإنسان الأزلي من الحقيقة لاسيما عندما يكون على خطأ ومناقضاً لفطرته النقيّة .

2-                ( ريشة / سيدي / ليلة / انتقام ):

تختلف الأربع قصص التالية إذ تأخذ شكلاً تجريبياً تقنياً ؛ فيجسّد صراع الإنسان من أجل الخلود سواء كإنسان بذاته أو عبر ذريته ممن يحملون اسمه في تحدٍ بوجه الزمن؛ لذا يتفاوت السرد إما تكون على لسان البطل بضمير المتكلم أو الراوي العليم أحياناً. تتداخل العصور السحيقة مع الحاضر في قصة "ريشة " ويتراجع الزمن حتى يصل إلى عصر البداءة؛ فالبطل يصلي في المسجد الذي كان مخبأ لمنقريوس من الرومان، وقبله مصلى حور محب للإله آمون رع  وكذلك محل صلاة البطل مع أفراد قبيلته لإله المطر. يكمن سر خلود هذا البطل في ريشة أنقذها أثناء إحراق الطائر الأخضر الأسطوري؛ فكلما بلغ السبعين من العمر يحرق البطل نفسه مع الريشة ويولد ابن الثلاثين . تقف في النهاية فكرة الخلود في مقابل الواقع الإنساني الحالك ووسط أوضاع تتزايد سوءاً وتتلاشى أمامها المعاني الإنسانية ، يقول: " تجري في عروقي دماء القرون السالفة بقوة حتى لأظن أنني سأتفتت، الصور تتدافع بجنون وسرعة لا أستطيع أن أميزها تثقل الذاكرة فتضغطني ". على الرغم من أن الريشة تأخذ شكلاً طوطمياً وعلامة مميزة لقبيلة البطل إلا أنّه مع الوقت تحولت من سلطة فوقية إلى معبر زمني أزلي يمسك الإنسان بزمامه حتى يتنازل عنه طواعية ، فالإنسان لا يستطيع تحمل ثقل الخلود وعبئه حتى وإن كانت طاقاته خارقة. في قصة " سيدي "، يسكن العفاريت ترعة المحمودية ويلقون بشجرة الجماجم الأسطورية في طريق سيدي الطاهر، فيحصل على قوة مسحوق الجماجم السحري. يتبدّى صراع الأجيال بين طاهر الجد ومحروس الحفيد على الزريبة التي بدأ يحرقها الحفيد ، وعليه يتحول الأمل في واقع يائس إلى رسم على الحائط يذوب فيه سيدي الطاهر مع المكان ويحوله إلى بطل أسطوري يستعين بـــdeus ex machina  أو المدد الغيبي من عالم الغيب ليطير مكملاً حياته؛ فبين القصتين يقدّم الكاتب مقارنة بين حياتين: الحياة من أجل الخلود من ناحية وفطرة الإنسان للبقاء من ناحية أخرى ، ولكن شتان بينهما.

تختلف قصة " ليلة " تقنياً لتعدد رواتها فهي قصة بوليفونية تعرض ثلاثة مستويات للمعرفة  تتكشف تدريجياً للوصول لسبب قتل العمدة لزهرة ثم تلبُّس زهرة لسميرة الغنيمي القبيحة حتى يتزوجها عبد الظاهر حبيب زهرة . فتبدأ الرواية من عبد الظاهر غبش إلى زهرة ذاتها ثم إلى سميرة والحجاب الذي عملته لها الشيخة نادية . تنضوي القصة على مفارقة أفق توقع القارئ لاسيما علاقة السحر والشعوذة بتغيير مسار حياة عوائل بأكملها استجابة لنزوات شخصية . تستأنف قصة " انتقام " أحداث القصة الماضية بعدما تعرّض عبد الظاهر غبش للظلم وتوارث الأحفاد الأحقاد والرغبة في الانتقام حتى تتحقق في مخيلة الجيل الأول من الأجداد، فالحفيد صورة من الجدّ والتاريخ يعيد نفسه والعائلة الطيبة تظل طيبة والشريرة تظل شريرة ، وهكذا تظل دورة الحياة في دورانها حتى تعود إلى نقطة البدء.

3-                (قصة / ثعبان / عروس ):

          يتمظهر التماهي بين الواقع والمتخيل في قصة " قصة " عبر المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني حين يقول الراوي:" أعترف أنني لا يمكن أن أحيط بتجربة حمدي شعلان في قصة خُطط لها ألا تزيد عن ثلاث صفحات لأسباب فنية "؛ كذلك الانتقال من الواقع إلى الحلم الذي يمثل القدرة الخارقة في البطل؛ فتتلاشى الحدود الحلمية ويصير الحلم متحكماً في الواقع والواقع ممتداً مع نهاية الحلم. ويتحول الحلم إلى وسيلة للحصول على النفوذ والسلطة حتى صار البطل يتحكم في الواقع عبر الأحلام لدرجة شعر أنه ليس بشراً . وهكذا جعل من نفسه أسطورة بل وأراد تفعيل دوره كإله نسبي أن يميت نفسه ثم يحييها داخل الأحلام ويكرر هذا أكثر من مرة. إنها رغبة الإنسان في تحدي قدراته البشرية المحدودة للوصول إلى الخلود ؛ ولكنه إنسان يخطئ ففي المرة الأخيرة لم يقدر على إنقاذ نفسه " وجدوه على سريره والإحساس بالفشل المزري واضح لكل ذي عينين، وهم يغسلونه كانوا يشعرون بأنه أكثر من شخص ، وأنه ما زال حيّاً في مكان ما ، وأنه ميت فعلا منذ أزمان كثيرة ". تتعانق قصة " ثعبان " مع مفتتح المتوالية عن تحول الشيطان إلى ثعبان في القصة هنا يخرج الثعبان بطن روحية للانتقام من أهل القرية في اليوم الذي يقول عنه الجد أنّه يوم الميلاد ؛ ومن ثمّ تظهر أسطورة المخلص الذي جسّده الحفيد في صراعه مع الثعبان ليقتله ويخلص أهل القرية من الآثام الممثلة في الأفاعي والثعابين التي تخرج من البيوت ولا يراها غيره فيقتل الثعبان وينتهي عمره معه، مقدماً نفسه تضحية للآخرين على عكس القصة التالية.

تختتم قصة " عروس " المتوالية لتلتقي مع الحكاية الشعبية "الشاطر حسن وست الحسن والجمال"، فالعروس رمز البراءة والطهر والجمال، ولكن حسد أهل القرية جعلها تسقط ليلة زفافها حتى صارت على شفى الموت يظهر دور الجدّة التي تعرف الأسرار وقد توقف عمرها لحظة وقوع العروس في انتظار أن يأتي حسن لها بالدواء. تكمن المفارقة أن لا أحد يريد التقدم ليغسلها بالماء المقروء عليه لأن لحظتها تنتهي حياته ؛ إنه إثم الحسد الذي كان سبب الصراع بين الشيطان وبني آدم منذ بدء الخليقة، وإثم الاستسلام وعدم الإقدام على التضحية، يقول الراوي:" كنت أتوكأ على حفيدي الذي يحاول أن يسرع بخطواتي الواهنة في أول زيارة له للتعريشة، وأنا أحكي له ما حكاه لي جدّ أبي ، وقفنا أمام العروس الراقدة في سريرها، نظرنا إلى الجدّة  صابحة التي لا تكفّ عن تقليب المياه بذراعها الأيمن والقراءة الخافتة "، حتى غدت حكاية تتداولها الأجيال . ختاماً، إن متوالية " حاوي عروس " تقدم أنموذجاً تجريبياً لتوظيف الأسطورة في القصة القصيرة لتظهر دورة ونمطية الحياة الإنسانية أحياناً كثيرة إلا من مفارقات خارقة عبر التدخل الغيبي أو الخرافي؛ وهنا يقف القارئ متسائلاً أ يحتاج المجتمع بطلاً أسطوريَاً كي يتغيّر أم أنّ زمن الأساطير قد انتهى وتبقى حياة الإنسان على المحك في مواجهة واقعه الذي يستلزم كثيراً من التضحيات .

دينا نبيل

الثلاثاء، 7 مايو 2013

The Most Dangerous Game … Humanity in a Trap!



The Most Dangerous GameHumanity in a Trap!
By
Dina Nabil

To "the Ship-Trap" island, Richard Connell takes the reader in a journey through his remarkable story "The Most Dangerous Game" to make a close spot over human psyche when it is transmuted from humanity to brutality. Connell creates a remote island to test slogans about basic human rights raised by the civilized world, the right of survival with dignity and freedom without being trapped by massive powers that could destroy the weak any moment. The story in itself is a trap for the reader, as a human being, since it provokes a critical question; what would a man do if he is away from the watching eye of cultivation?, would he behave according to ethics as a human being, or would turn into a beast resorting to the jungle law. In the fifth edition of his "On the Origin of Species", Charles Darwin uses Herbert Spencer's, a British philosopher, coined phrase "the survival of the fittest", which is not monopolized in biology, but as well as in morality. This phrase undermines moral standards by letting the strong's hand over the weak's neck, especially in societies that do not respect human rights; thus it produces two types of classes, if it ought to be said, predators and preys. The story focuses on the everlasting quarrel between the strong and the weak, including a person- against- person, a person- against – nature conflicts, or between two fighting desires within man himself. Therefore, the writer employs several devices, setting wise and character wise, to drag the reader's attention to his real identity away from the law; whether he is a human or a beast.

         As the story begins, two characters, big-game hunters, are introduced to represent two different forces, instinct and reason; which were wrongly thought to be separate, though they complement each other. Plato has long ago painted a picture of a Charioteer driving a chariot pulled by two winged horses. This allegory symbolizes the exact notion; the Charioteer is the human soul driving the two horses, one stands for reason and rational impulse, while the other embodies irrational passions and human instinct. In the story, Rainsford, the protagonist, represents reason and methodical way of thinking as it will appear later on. On the other side, Whitney stands for human intuition. Despite their differences, they complement each other, as Plato has stated; they are on the board of the same yacht going to the same direction, Rio de Janeiro. As the ship moves forward, the writer provides the reader with some clues to help him predicting the coming incidents to supply him with necessary pleasure and interest. While the yacht draws on in the Caribbean Sea, it passes through "the Ship-Trap" island, the narrative setting of the story, about which Whitney says:" A suggestive name. Isn't it?, sailors have a curious dread of the place. I don't know why. Some superstition-", but Rainsford could not see it due to the thick tropical night blackness, he says:" Ugh! It's like moist black velvet", and consequently, does not believe in such a thing. The writer arouses suspense around the island through the horror atmosphere dominating the first scene, not only through the silence and blackness, besides the difficult weather of the Caribbean, but also through the crew's instinctive fear, as Whitney says:" Didn't you notice that the crew's nerves seemed a bit jumpy today? … This place has an evil name among seafaring men, sir … Don't feel anything? - as if the air about us was actually poisonous." Nonetheless, Rainsford does not believe in this and thinks it is not more than pure imagination or superstition.
              Approaching in the Caribbean implies moving in darkness, and the island signifies its heart; the heart of darkness. This inspiration corresponds Joseph Conrad's great novel "Heart of Darkness", which not only does indicate the darkness of African jungles, but also the dark depths of human psyche and evil desires concealed beyond glamorous insincere declarations of civilization. Therefore, the dialogue between Rainsford and Whitney immediately twists to tackle the conception of hunting and human superiority, which grants them the right to play with animals regardless their instinctive fear.  Rainsford does not realize the danger of his speech:" The world is made up of two classes- the hunters and the huntees. Luckily, you and I are hunters", which foreshadows the dominant conflict in the story between the strong and the weak.
              As Whitney turns in the yacht, Rainsford gets startled by three gun shots, he starred at the direction of the sound but saw nothing. He moved quickly towards the rail and leaped on it, his pipe knocked out from his mouth, as he tried to fetch it, he lost balance and fell in the "blood-warm waters of the Caribbean Sea". Incidents get complicated as conflicts come to the scene; though Rainsford seemed from the exposition of the story as a strong self-controlling man, but now he loses his nerve control particularly after the yacht has raced until it vanishes. Rainsford became alone face to face with the sea, he called an 'enemy'. This 'a person-against-nature' conflict is the first embodiment of 'hunters verses huntees' conflict; nevertheless, Rainsford, this time, is ironically the prey, of the sea, the hunter, and its species. Not to mention, this conflict converts 'the blackness' from a seen force into a fighting tangible one which drowns and vacuums through various weapons, the salt water which made Rainsford gag and strangle, the heavy worm strong waves, and the rocky shore which may scatter whatever is pushed to it. Rainsford's attempts for survival never cease, even in his methodical approach, as it previously mentioned, reason and instinct cooperate to rescue the human soul; he looks for food by tracing track of shots, the crushed jungle weeds, a crimson patch, hunting boots prints and an empty cartridge.
              The writer uses horror devices; the night, opaque blackness, loneliness, gun shots, and screaming, side by side with Gothic atmosphere which appears in the only building on the island, the chateau; the "heart" is the chateau, of "darkness" i.e. the island. The chateau is designed according to the medieval architecture " with pointed towers plunging upward into the gloom", three sides of which are dived down into the sea. All features of civilization are found in the chateau, unlike the deserted island. This takes the reader to the difference between two similar journeys, here and in "Robinson Crusoe". The protagonist, in "Robinson Crusoe" moves from cultivation, England, to savagery, an anonymous island of cannibals, on the contrary, Rainsford in "The Most Dangerous Game" moves from civilization to much more civilization but black evil lies in deep depths of its inhabitants, General Zaroff and his servant Ivan, Cossacks from southern Russia. There are overlapped circles of blackness; Zaroff's blackness corresponds the blackness of the sea; his black eyes, thick eyebrows, dark face, and pointed military mustache are as "black as the night from which Rainsford had come". This similarity between Zaroff and the sea foretells the 'hunters verses huntees' conflict. General Zaroff recalls his memories about the sport of life, hunting; he hunted all types of animals around the world, but he got bored of it, for "the animal had nothing but his legs and his instinct. Instinct is no match for reason". Consequently, he had to create a new animal equal to him in reason and cognition; hence, he went through the most dangerous game, human beings hunting.
              Sadistic Zaroff seems like a god, to whom all powers yield, the black terrible sea that drives sailors' ships to the rocky shore so as to wreck their ships, Zaroff says:" razor edges crouch like a sea monster with wide-open jaws", and uses electricity to drag the sailors to his château. Even the island was perfect for his purpose, because "there are jungles with a maze of trails in them, hills, swaps-". Therefore, Zaroff represents the dilemma between civilization and brutality; what civilization really means, whether it is electricity, a massive castle, lavish dinner and captivating garments or the mid-Victorian Puritan thoughts about human respect. That is why; Zaroff is an archetype of the post-World War1 change of standards about everything, especially the quarrel between the strong and the weak.  Zaroff's sadistic lust has no limits; therefore, Rainsford is chosen as the next prey after naïve sailors have proved their failure as hunting satisfaction.
 For the second time, Rainsford becomes a huntee; he is given three nights to hide in the jungle and free himself unless the General finds him. At the first night, Rainsford made up a doubled trail to perplex the General and hid himself upon a lofty tree, but the expert Zaroff discovered his place; however, he did not wish to end the game so fast that he could save his prey for another day's sport. Suspense rises up more and more, as the protagonist's fear and instinct work hand in hand with his reason to surmount Zaroff's experience; thus Rainsford experiences the prey's fear, as he "lived a year in a minute". At the second night, Rainsford made up a tree trap, but Zaroff had only his shoulder harmed. At the last night, he made a trap beside the Death Swamp which caught one of the hounds, and killed Ivan by fixing his pointed knife in a tree. Rainsford is then trapped between two fighting motivations within himself, either to wait for his death in the jungle or escape by finally reaching the sea shore. It is easy to imagine how upset Zaroff is, after losing his sincere servant, Ivan and his quarry escaped him.
The climactic moment in the story is when Zaroff unexpectedly finds Rainsford at his bed room; though Zaroff proclaimed Rainsford's victory, Rainsford insisted on finishing the game as a beast this time. The musical chairs game or roles replacement appear at the falling out of the story, as Rainsford is now an actual hunter whereas Zaroff is a huntee who surrenders to his destiny as a repast to the hounds, while his opponent sleeps in his bed. It could be a little bit bewildering why the writer makes the story open-ended, as it is not easily presumed whether Rainsford learnt from this experience or not. However, after his taste of fear as a prey he could cease hunting or at least does it with respect. At last, roles replacement, in the conclusion of the story, does not mean that Rainsford became another Zaroff, but it is a means to put things in the right place. Rainsford puts an end to brutality and abuse even though by killing; that is because, some solutions must be as cruel as the wrong doing itself to end the whole matter.

Dina Nabil                                                          

الأحد، 21 أبريل 2013

The Monkey's Paw... a Scheme of Suspense


The Monkey's Paw... a Scheme of Suspense


By

Dina Nabil





      "Checkmate!", and the game was over; by this situation W. W. Jacobs starts his story The Monkey's Paw to proclaim the inescapable eternal game between man and fate. The writer presents the dilemma between man and fate through a thread of conflicts, external and internal, through out the three parts comprising the story. The rhythm of incidents rises up to provoke the tone of suspense with every single detail. This story, for sure, is not the only one written on the three wishes theme, as it is frequently repeated in folk tales, particularly in the so-called Aladdin and the Magical Lamp in The Arabian Nights. However, despite the familiarity of the theme pattern, suspense does not let go this literary work.



      The story begins introducing a Gothic atmosphere, as initial incidents take place at a cold wet night in Laburnam Villa, an isolated area with deserted torrent roads. The Whites were gathering beside fire; the mother knitting and son and father playing chess. These two motifs, kitting and chess, are considered primary clues which would mirror the story's outcome. Chess is a play of life and death; one survives while the other does not. Knitting on the other hand, is closely attached to the cycle of life; not to mention it is derived from the Greek mythology of The Three Fates kitting and weaving, which is fertile to many epics such as The Odyssey and many other literary works. Though it is easy to predict what the story would tackle, interest is aroused by the arrival of Sergeant Major Morris, who has just arrived from India. Morris starts recalling "strange scenes and doughty deeds of wars and plagues and strange peoples". Nevertheless, it could be anticipated that something more interesting than this is going to be narrated; as India itself is a country of mystery, legends and magic.



      The narrative hook which catches hold with the reader's eagerness is in the following sentence by the old Mr. White:" What was that you started telling me the other day about a monkey's paw or something, Morris?". Not only is the characters' curiosity touched, but the reader's as well in several audible and visual methods: the weird name of the talisman, its mysterious looking as a dried mummy, Morris takes the paw out of his pocket, narrating miserable stories around it and uttering its function crystal clear:" It is a spell put on it by an old fakir who wanted to show that fate ruled people's lives, and that those who interfered with it did so to their sorrow". This sentence is the core of the story, as it is formerly implied in the knitting and chess scene; moreover, it foretells the dominant conflict in the story, between man and fate. The first external conflict, person-against-person, starts as Morris intended to throw the talisman in fire to get rid of its danger; however, Mr. White snatches it from fire. The rhythm of incidents beats loudly because Mr. White does not listen to Morris' warnings about the talisman; in addition, he asks about the way of wishing. At this point complication rises steadily as Morris gives his last advice to Mr. White before his departure:" Wish for something sensible".



      By Morris' departure, the narrative line never ceases moving on, though a general sense of motionless suspense controls both the reader as well as the Whites who were busy thinking of the talisman's abilities. Mr. White's internal conflict occurs between what to desire for and the curiosity of testing the talisman, because he does not know what to wish for, as he seems not needing anything, adding to this, his wife and son Herbert doubt the possibility of any wish to be obtained. Then Mr. White, from a motive of curiosity, utters the first wish, which is normally about money, as in most of three wishes theme tales. The writer is an expert in devices creating the horror atmosphere around the wishes; suddenly after wishing for two hundred pounds, atmosphere changes: the higher wind, the banging sound of the door upstairs and the sudden unusual silence, as the talisman twists in Mr. White's hand like a snake. The usage of this imagery, " talisman twists like a snake ", is an important clue about the identity of the talisman which has several literary allusions. In biblical perception, snake is a symbol of temptation and deception; in Adam and Eve's story, Satan transfers into a snake and tempts them to eat from the Forbidden Tree. Their yield to temptation led them to be kicked out from Paradise, and then the human misery consequently. Moreover, in Jesus' story of the forty days test, Satan appears like a snake in attempt to tempt Jesus with three wishes of making him a king, but Jesus rejected that, and thus rescued himself from misery. Therefore, the talisman stands for deception, temptation and a test of inevitable consequences. The first part of the story ends up with Mrs. White and Herbert mocking the talisman's ability of accomplishing any wish, assuming that money would drop from the sky or be found in the middle of bed and then his father would turn out to be a mean person and they would disown him.



           Incidents get more complicated in the second part, as the talisman's function comes to an action; Mrs. White watches mysterious movements from a strange man delivering bad news about their son Herbert who was badly injured to death after being caught in the machinery. Mr. and Mrs. White were in a great surprise, when the two hundred pounds are presented for them as a compensation of their son's death. At this point, the monkey's paw turns out to be the major representative of a person-against-fate conflict of unexpected and dissatisfying consequences, as fate is not to be played with nor be examined. Therefore; it is concluded that the previous mistakes of Mr. White's play in chess parallel mistakes he makes wishing on the paw. What is so ironic about the first wish is that fate chooses the youngest of the Whites for death, leaving his parents lamenting his loss forever, thus sometimes children carry the burden of their parents' mistakes. The writer here drew from numerous widely known sources to renovate typical themes and provide the reader with necessary inspiration; this theme of a savior who carries the others' burden is another literary allusion derived from a biblical source of the holy trinity, Father, Son and Sacred Soul. Jesus Christ, the Son, carries the burden of human sins, though he is innocent of them; likewise, Herbert, the son, carries his father's wrong doing by challenging fate. Then the talisman does not seem to be the cause of calamities, but becomes a means of lifting them up by reversing the first wish; as a result of that, Mrs. White hysterically searches for the paw to bring her son back to life; in other words, to change fate one more time.

                               

      The third part presents varieties of transformations character wise; this technique adds to suspense because conflicts are switched, the supporter becomes an antagonist and vice versa. Mrs. White's objecting attitude against the talisman becomes an ultimate belief in it, while Mr. White plays the role of the doubter who sees the talisman's abilities as some sort of coincidence. The interpretation of attitude transformation is centered on not believing in fate and God's choices for man, though it appears in the sense of fear from the injured dead Herbert if he comes back to life. The second horrifying transformation is the one happened to Herbert; by accomplishing the second wish, the playful lighthearted Herbert, the only working member of the Whites, is transformed into a horrifying corpse or a ghost brought back to life. The scary atmosphere which accompanies the second wish; a high wind, abrupt silence and repetitive knocks on the door, increases suspense though it is predictable what the third wish is going to be.  Excitement never lets go incidents especially in what may be called a race between Mr. and Mrs. White; he wants to reach the paw to wish his last wish of not letting their son's corpse enter the house, while Mrs. White rushes to open the door for her son. This situation is the climactic moment, as two sorts of conflicts are bowed together; a person-against-person conflict between Mr. and Mrs. White as asserted before, and a man-against-fate conflict, as Mr. White's word is against allowing their son's corpse to come back to life. The last wish is uttered though it is not mentioned literally but could be easily identified. The rhythm of incidents falls down as the knockings cease suddenly and a cold wind rushes up the staircase. The story is concluded as Mrs. White utters a wail of disappointment and misery as "the street lamp shone on a quiet and deserted road".   



      Finally, The Monkey's Paw is a Gothic short story in which W. W. Jacobs makes the best use of widely world known allusions to state a theme of a paramount importance; man against fate. The theme of the three wishes is one of the crucial allusions especially because it is associated with ancient tales and mythology, thus it bounds man with his ancestors to present the eternal dilemma of all times. The writer made a good use of gothic stories devices to enhance suspense in the story though its outcome could be predictable from the first lines. The Whites, not only does their surname stand for human innocence and primitive ignorance against massive powers, but they also represent an archetype of human curiosity though not greed, in contrast with mysterious dungeons of the unknown.       


Dina Nabil

الثلاثاء، 9 أبريل 2013

رسالة بحر -- قصة قصيرة



رسالةُ بحر




" إليكَ ..   .. تركتني   ..  ..  تهشّم مركبي  ... ... ، لمَ ..   .. ؟
أنتَ يا  .. ..  ..  أمواج ..  .. تتقاذفُني .. ... !
عُد إليّ ..   .. نخرَ البردُ عظمي  .. أصابني الصممُ ، عـــــ .. ..  !
إن لم تعُد ..  .. فأنتَ .. .. !!!
... ...
...  يا من تجدُ رسالتي فقد وجدتني .. ..
أرسل .. ....  نجدةً ، اطلُبـــــــ ..   .. ... ...
المُخلص
.. ..  البحر "
أمسكتُها من حوافّها شبهِ الذائبة ووضعتُها أمامى على الرمال كي تجّف ، صحيح أنها كانت داخل زجاجةٍ مغلقةٍ استغرقت مني ساعتين لفتحِها، ولكنّ بحرَ الشتاءِ المتلاطم ، والماءَ القارس ربّما نفذَ إليها.
رسالةٌ غريبةٌ يلفظُها البحرُ بقوةٍ فتصطدِم بوجهي، كما لو كان يضيقُ بها ذرعاً ، وكلّت أمواجُه عن حملِها وحملِ عبءِ ما فيها.
ما العملُ الآن ؟!
من " البحر" هذا ؟
أعرفُ أنّ كثيراً من أهلِ الإسكندرية يُلقبون أولادَهم بـــ " البحر " تيمناً به وطمعاً في طولِ الأجل، فمنَ المؤكدِ أنّ هذا لقبٌ لعائلةٍ هنا ، ولكن أيّهم يكون والمدينةُ بهم ملأى؟
حملتُها بعد أن جفّت تقريباً فلم يعُد الهواءُ الباردُ محتملاً ، أدخلتُها في سترتي خشيةَ أن يُصيبَها الرذاذُ المتطايرُ .. هل من الممكنِ أن تكونَ حياةُ إنسانٍ مرهونةً بتلكَ الورقةِ ؟! .
لم أدرِ أينَ أذهبُ بها .. ؟! .
 لوهلةٍ تذكرتُ قسمَ الشّرطةِ لكنني أحجمتُ خوفاً من عواقبَ لا تُحتمل ، أسرعتُ نحو عمّالِ الشاطئ أعرضُ عليهم الورقةَ لكنّ أحداً لم يُصدقني .. كيف يكتبُ إنسانٌ ورقةً وهو في عرضِ البحرِ؟ .. حتّى وإن حدث هذا ، فكيفَ تصمدُ زجاجةٌ ضعيفةٌ أمام الصخورِ والأمواجِ العاتية ؟ .. ولم تُحطمها إحدى ضواري البحرِ التي تستغلُ هياجَه لترتعَ بحُريّة .
خرجتُ إلى الشارعِ .. لابدّ أن أتصرفَ ، فالرجلُ يموتُ .
لم يأبه أحدٌ ليدي الممدودة ، أعطاني أحدُهم جنيهاً ومضى دونَ النظر إلى وجهي! .. وآخرُ يقولُ لي " الله يسهل لك! " ، جريتُ وراءه ، جذبتُه .. " ثمّة رجلٍ يموتُ في عرضِ البحرِ وأرسلَ رسالةً يستغيثُ " ، نظرَ إليها نظرةً خاطفةً ، وتأمّلني قليلاً في صمتٍ ثم رحل .
ذهبتُ إلى محطةِ الحافلاتِ .. مُكتظة كالعادة بكتلٍ متلاحمةٍ اتقاءَ المطرَ والصقيعَ ، صرختُ بأعلى صوتي .. "  ساعدُوني ! .. هناكَ رجلٌ يغرقُ في عرض البحر! ".
 انتبهوا إليّ من فورهم، فما إن أخرجتُ لهم الرسالةَ حتى بدأوا بالتهكمِ والضحكِ ، وعندما لاحت الحافلةُ من بعيدٍ .. تدافعتني أمواجُ اللحمِ ولفظتني خارجَ تيارها .
سقطتُ على الأرض .. لا شيء أشدّ إيلاماً من الارتطامِ برصيفٍ خرساني متجمدٍ يبعث ذبذباتِه الكهربائيةَ في خلاياي ليصيبني بالخدر . لملمتُ أطرافي وشددتُ سُترتي عليّ مقاوماً هواء يَخِزُ عظامي .
لم يكُن هناك من يكترثُ لندائي.
لم يعُد هناك أحدٌ من البشرِ .. وحدُها مظلاتٌ ملونةٌ براقةٌ ، نبتت لها أرجلٌ طويلةٌ تعدو هنا وهناك ، وسياراتٌ ترشرشُ نوافيرَ وتطلقُ نفيراً يتابعُ أصداءَ الرعدِ الذي بدأَ منذُ قليل.
توجهتُ مجدداً نحو الشّاطئ .. كان خالياً من كلّ شيءٍ عدا أعشاشٍ متناثرةٍ تستندُ إليها بعضُ قواربِ الصّيدِ القديمة .. أخذتُ أقلبها .. أغلبُها هزيلٌ متفسخٌ ، ولكنني تخيرتُ أفضلَها حالاً ، ورحتُ أسحبُه على الرمال .
الرمالُ بيضاءُ صلبةٌ ، والقاربُ فوقها يخطّ خطاً طويلاً عميقاً لم يلبث أن امتلأ بماءِ السّيول .. حتى انتهيتُ إلى البحر .. لابدّ من الإسراع ، فالرجلُ يموت!
لا تخفْ شيئاً يا " بحر" .. أو أياً كان اسمك .. أنا آتٍ إليك!
البحرُ هائجٌ .. تتلاحقُ الأمواجُ بعنفٍ يلتهمُ بعضُها بعضاً .. تنتفخُ وتتعملقُ ثم تتكسرُ على حافةِ الشّاطئ .
الشّاطئُ يتضاءلُ .. يتآكلُ .. والبحرُ يزحفُ نحوي .. تزحفُ ألسنتُه الباردةُ تلعقُ قدميّ .. تطوّقُهما .. تتلقفُ قاربي، تشدّه وتحملُه على أكفّها إلى مائها الرمادي الحالك .
ثوانٍ وعادَ وميضُ السماءِ على حين غرةٍ يخطفُ بصري، أعقبه هزيمٌ أحسستُ له رجرجةً في البحرِ .. والبحرُ من تحتي يفورُ ويهدرُ مُزمجراً . اهتزّ الأفقُ البعيدُ .. رويداً يتلاشى الحدُّ الفاصلُ بين السماء والبحر.. ينبضُ .. يتنفسُ ، ويبتلعُ الاثنين معاً ..
راحت عيناي تدوران في الأرجاءِ علّني أعثر على صاحبِ الرسالة .. ناديتُ .. " يا بحر .. أين أنت ؟! " .. السماءُ والبحرُ يتبادلان الشهيقَ والزفيرَ، يشتتان ندائي .. والهواءُ يأبى إلا أن يمزّقَ صوتي .. يبدّده .. فلم أتمكن من سماعِ صوتي !.
الأمواجُ تدفعُ بقاربي ، القاربُ ينتفخ إثر تسرب الماء إليه .. غدا أثقلَ ، معبأً بالماء والطحالب .. ملابسي التصقت عليّ وتملكني وخزٌ ينشرُ جسدي .. أخذت ألفُّ حول نفسي كإبرة بوصلةٍ هائمةٍ ، حسبتُ نفسي أسبحُ فوق مصفاةِ الكونِ العظمى أدورُ وسط دوامةٍ لشفط ماءَ البحر بأكمله ..
عندها سلّمتُ أنّه لا وجودَ للمدعو " البحر " .. ويجب عليّ الخروجُ من تلك الدوامة .
ولكن تراءى لي طوافٌ خشبيٌ هزيلٌ ، ووصلَ إلى سمعي صوتٌ متكسرٌ يبدأُ عالياً ثم يذوبُ بعيداً ربّما هي كلمة " النجدة " أو كما خُيّل إليّ .
لم أنتبه لقممِ الموجِ المتصاعدةِ على المدى .. أمواج ذاتَ بطونٍ .. مغاراتٍ .. زرقاءَ حالكةٍ .. سوداءَ .. يصهلُ زبدُها كخيلٍ بيضٍ فائرةٍ تهبطُ مسرعةً نحوي تصلصلُ في معركةٍ لن تكتبَ قطّ .. القممُ تتعملقُ .. تصنعُ رأساً ينفخُني .. ثم ما يلبثُ يسحبُني حتى كاد يبتلعني بطنُه .. تلفّتُ حولي لم أجد الطواف .. ولم أجد بحر !
صرختُ بكل ما بقي في من قوّة .. " أين أنت يا " بحر".. ! "
....
بينما البحر يلفني من كل جانب !.
_________
دينا نبيل عبد الرحمن
الإسكندرية
15/1/2013